دمشق ..... سنة 2019 م !!!
مرَّت مدّة الله أعلم بمداها، ثم صحوتُ فرأيتُ البلاد تغيَّرت ومَن عليها، فلم يعد هناك مقبرة ولا بساتين، بل شارع ضخم على جانبيه القصور الضخمة ذات العشرين طبقة، وأهله كلّهم يلبسون القبعات واللباس الأوروبي، فعرفتُ في الحال أنني في باريس!
اقتربتُ من أحد الناس فقلتُ له بالفرنسية التي أعرف منها شيئاً: بونجور. فصعَّد فِيَّ نظره وصوَّب، وتأمّلني باسماً متهكّماً، ثم سار ولم يردّ عليَّ شيئاً. فرجعتُ إلى نفسي فوجدتني غريباً في زيي، وكيف لا يكون غريباً مَن يلبس الطربوش ومن لم يقص شاربَيه؟ فأسرعتُ إلى حلّاق فحلقتُ، واشتريتُ قبّعة، وخرجتُ أنظر متعجّباً، لا أجرؤ على السؤال عن اسم المدينة وعن تاريخ اليوم لِـمَا لاقيتُ من الرجل الأول.
وأرى شيخاً هِــمًّا (قال أبو معاوية البيروتي: الهِم هو من زاد عمره عن الثمانين ) فأتخيَّل أني أعرفه، وأتقرب منه فأجده صديقي فلان، وقد كانت سنّه حينما فارقته عشر سنوات، فأتعجّب من شيخوخته وشيبه وأنا أكبر منه ولا أزال شاباً! ولا أعرف بأيّ لغة أخاطبه فأقول له: السلام عليكم بونجور غودمورنينغ! فيردّ عليَّ قائلاً : وعليكم السلام ورحمة الله. ويعجب من سلامي، فأنتسب له فيعرفني ويهشّ لي ويقول: كيف عدتَ إلينا وقد حسبناك متَّ منذ تسعين سنة؟
- إنّ لي لخبراً طويلاً، ولكن أخبرني قبلُ: في أيّ سنة نحن الآن؟
- في السنة 2019 ميلادية.
- وما هذه المدينة؟
- عجيب منك، ألا تعرفها؟ هذه دمشق.
- دمشق؟ ماذا تقول؟ أرجوك أن لا تهزأ بي.
- جِدًّا أقول إنها دمشق.
- ومتى كان لدمشق مثل هذا الغنى وهذه العظمة والرقي؟
- لا تغترّ، فما لدمشق منه شيء، ولكنه شارع الأجانب، والأجانب - تـجّاراً وصنّاعاً – هم سادة المدينة وعظماء أهلها ومالكو زمام أمورها.
- وماذا فعل أهلها؟ فلقد تركتهم على أبواب نهضة اقتصادية كبرى، ولقد أسّسوا معامل للدباغة والنسيج و ...
- آه، لقد أذكرتني عهداً كنتُ له ناسياً، ولا يعرفه ممّن ترى غيري. إنّ ما تقوله صحيح، ولكن ... آه! عمَّ أحدّثك؟ هلمّ، هلمَّ إلى أحد المقاهي فإنني لا أطيق الوقوف.
وندخل المقهى فتأتينا فتاة كأنها فلقة البدر تسأل طلبنا، ويجيبها رفيقي بلغة لا أدري ألاتينية هي أم لغة الصين، فتنحني قليلاً وتنصرف. فأقول له: ما هذه الفتاة؟ وبأي اللغات تكلمها؟
- إنك قطعت عليَّ حديثي الأول، ولكنّي مخبرك عن سؤالك. ليس مَن كلّمتَ بفتاة ولكنه شاب.
- شاب؟ شاب؟! وما هذا الشعر الطويل؟ وما هذه الثياب القصيرة؟ وما هذه الأصبغة؟ وما هذا الكحل في العينين؟
- نعم يا سيدي، إنه شاب، وهكذا كل الشبان اليوم، لا يعرفون إلّا التجمّل والرقة، أما الأعمال الكبرى والمشروعات العظيمة فكلّها بيد المرأة!
- ماذا تقول؟ أَبُدِّلَت الأرضُ غيرَ الأرض؟ أم قامت الساعة؟ أم طلعت الشمس من مغربها؟ أم ماذا؟
- إن شيئاً من ذلك لم يكن، ولكن هذه ((الموضة)) التي بدأت بدأت في زمانكم بحلق شاربَي الرجل وشعر المرأة، وحضورها في الكلّيات وعقدها المجامع، واشتغاله بالزينة وعكوفه عليها، قد جرّنا إلى ما ترى، وما خفي عنك أعظم! وأمّا هذه اللغة فما هي إلّا خليط من اللغة العاميّة واللغات الأجنبية، وأما الفصحى فلم يعد يعرفها إلّا المنقطعون لدراستها، وقليل ما هم! ودعني أتمّ لك حديثي الأول: إنّ هذه النهضة الاقتصادية التي بدأت في زمنك، والتي سارت سيراً حسناً حينما أقبل الطلّاب على مساعدتها، لم تلبث أن ركد ريحها وتقاربت خطاها لانقطاع الناس عن مساعدتها ومثابرتهم على شراء البضائع الأجنبية، فضعفت، ثم اضمحلّت فلم يبقَ لها أثر. وخلا الجو لقُبَّرة أوربا، ولكن لا صائد لها !
وهنا جاءت (أو جاء) الكارسون بقدحين من الخمر، فقلتُ: خمر؟ أأنا أشرب الخمر؟!
- مهلاً يا أخي، فما في المدينة شراب سواه، وإنّ هذه الحانات التي كانت في زقاق رامي (الذي يُرى اليوم في مخططات دمشق الأثرية) وإهمال الحكومة أمر إغلاقها وتحريم تعاطي ما فيها قد سَبَّب لنا هذا البلاء العام والشر المستطير.
- ولكني لا أشربه.
- ولماذا؟
- عجيب! أليس بحرام؟
- حرام؟ هاهاها! ما بقي مَن يقول حرام وحلال.
- ماذا؟ وهل ذهب الدين؟
- أليس لك بذهابه علم؟ هاك المسجد الأموي، لا يدخل إليه إلّا المتفرِّجون، لا المصلّون. ولا تعجب من هذا، فإنك تعرف أنّ شبّان زمانك كانوا يتهاونون بأمور الدين ويتغافلون عنها، وسار أولادهم في طريقهم، فنشأ هذا النشء الذي لا يعرف من الدين إلّا الاسم.
- أليس لك بذهابه علم؟ هاك المسجد الأموي، لا يدخل إليه إلّا المتفرِّجون، لا المصلّون. ولا تعجب من هذا، فإنك تعرف أنّ شبّان زمانك كانوا يتهاونون بأمور الدين ويتغافلون عنها، وسار أولادهم في طريقهم، فنشأ هذا النشء الذي لا يعرف من الدين إلّا الاسم.
وطلب إليّ صديقي أن أقوم معه لندور في المدينة، فامتطينا سيارة، فرأيتُ ميداناً عظيماً فيه تمثال، فقلتُ له: تمثال مَن هذا؟
- ليس تمثالاً لبشر، ولكنه تمثال الحرية .
- وما تمثال الحرية؟
- هو ...
وهنا صدمتنا سيارة أخرى، فصحتُ: وارأساه!
ففُتِح عليَّ الباب، وأفقتُ فإذا أنا في الفراش، وإذا هي دمشق لا باريس، وسنة 1929 لا سنة 2019، لا بنايات ولا تماثيل، ولا تهتك ولا إلحاد، وإذا كلّ ما رأيت رؤيا منام وأضغاث أحلام!
* سطرته يراع الأديب أبو بنان علي الطنطاوي رحمه الله .
اسعد الله أوقاتكم بكل خير
الحقيقة المقال جيد والتصور واستخدام الخيال كذلك
لكن
الاسم (وادي الرجيع) لا ينطبق على المسمى (المقال)