سوق الخميس
عبدالكريم محمّد سعيد غازي
الأربعاء 15/04/2015
عبدالكريم محمّد سعيد غازي
الأربعاء 15/04/2015
قبل ستة عقود قرّر أبوعامر الأزدي الهبوط إلى سوق الخميس الأسبوعي، والقابع في قرية الباحة من سراة غامد. كانت نيته الأولى هي قضاء بعض حاجيات أسرته، والتي في معظمها لا تقضى إلا من مثل هاتيك الأسواق الشعبية. تلك الأسواق كانت أشبه ما تكون بالمتاجر الكبيرة، التي تغصّ بمختلف البضائع؛ ولكنها لا تفتح إلا ليوم واحدٍ في الأسبوع. أما نيته الثانية من الهبوط فهي الرغبة الملحّة في التقاط أخبار النّاس وأحوال المجتمع، فالأسواق الأسبوعية قديمًا كانت عبارة عن ساحات فسيحة للبيع والشّراء والتعارف بين الناس، ففيها يتقابل الأصدقاء، وتقص القصص، وتقام الحدود، ويتعارف الأغراب، وتتناقل الأخبار، وتقضى الحاجات، وتسدد الديون. قبل الرحيل عنَّ لأبي عامر أن يصطحب معه صديقه أبا أحمد، الذي وصل حديثًا من ديار الغربة، التي أمضى فيها ردحًا من الزمن بدافع طلب الرزق، وبدافعٍ آخر ألا وهو الهروب من شحّ الحياه وقساوة الظروف. قرع أبو عامر الباب على صاحبه، وأخبره عن وجهته، فقال له: لتكن لي صاحبًا في هذه الرحلة القصيرة... ثم أغراه ببعض مغريات الصحبة الحسنة؛ كراحة البال، التي سينالها من خروجه إلى مكان عام تتهافت فيه غرائب الحياة الاجتماعية الجميلة.
لم يطل الحديث بين الرجلين، لأن أبا أحمد أعلن موافقته والبشر يعمر وجهه الصّبوح. قبل الرحيل عمد كلٌّ منهما إلى ارتداء أجمل حلّة، وكأنهما ذاهبان لعرس فاخر لا إلى سوق شعبي تضيع فيه كل أنواع المظاهر الشخصية المميزة. امتطى كلٌّ منهما حماره، بعد أن عمدا إلى تجميلهما بالبرادع الوثيرة، وشيء من الخلاخل التي تحثّ الحمير على المسير.
لم يتعب الرجلان في تحديد وجهتهما، ولا في طريق مسيرهما، فطرق السير في ذلك الزمن الغابر واضحة للعيان، وتكاد ترى من كل ناحية؛ لأنها طرق مسحولة بفعل وطأة الأقدام وسير الدواب، لذلك فالناظر إليها من بعد يحسبها خلجانًا بيضاء ضيقة تسير بين مروج خضراء ساحرة.
كان طريقهما الذي سلكاه في غاية الروعة والجمال، فالمزارع الخلابة تحيط بجنباته وكأنها في رحلة أبدية مع تلك الطريق، والجبال الشاهقة تشرف على الوديان لتردد لهما لحن الصدى الجميل، والفلاحون البسطاء يخرجون من أطراف قراهم وهم يسابقون خطاهم نحو مزارعهم، ومصدر رزقهم، والرعاة اليافعون يغازلون بحداهم المؤثر أسراب الطيور وأنواع الزهور، أمّا السواني التي تنزح الماء من الآبار إلى المزارع فلأزيز أصواتها دلالة واضحة على قساوة الحياة، وهمة الرجال التي لا تعرف الكلل.
رغم انشغال الرجلين بالاستمتاع ببهجة الحياة من حولهما؛ إلا أنهما لم ينفكا عن الحديث الودي. لقد تحدثا عن كل شيء ذي بالٍ؛ إلا أن حديثهما عن الأسواق الأسبوعية قد طغى على كلّ موضوع، فكلاهما لديه القناعى نفسها من أنّ هذه الأسواق لها أفضال اجتماعية ومادية لأنها وبصدق تعتبر شريان حياة يمدّ الناس بالعون والمساعدة في عمليتي البيع والشراء، بعد عون الله تعالى لهم.
عندما قرب الصديقان من موقع سوق الخميس، استلم أبو عامر زمام الحديث عن السوق، فوصفه لصاحبه وصف العارف بدقائق أموره، قال في مختصر وصفه: إعلم يا أبا أحمد أن سوق الخميس قديم جدًا، وقد توارثته الأجيال جيلاً بعد جيل، والدليل على ما أقول هو تقادم عهد المنازل المحيطة به من كل جانب، هذه المنازل المأهولة بساكنيها، والمبنية من الحجارة الصلبة، والمسقوفة بالأخشاب ثم الطين، تدل هيئتها وطرازها المعماري، وكيفية بنائها على أنها تعود لقرون طويلة مضت، وربما أن تلك القرون قد عمّ فيها الخوف، وكثرت فيها الحروب، مما حدا بالناس إلى أن يبنوا بيوتهم متراصة مع بعضها، ولا يفصل بينها فاصل يذكر؛ إلا ما كان من ممرات ضيقة لدخول الناس وخروجهم، كل ذلك تمّ من أجل الحماية الزائدة، ومن أجل التآزر وقت المحن والشدائد.
سوق الخميس يا صاحبي يعقد مع بزوغ شمس يوم الخميس من كل أسبوع، ويمتد إلى قبيل العصر، ليصدر الناس بعد ذلك إلى أهليهم، بعد أن يكونوا قد أكملوا بيعهم وشراءهم. سمّي سوق الخميس بهذا الاسم نسبة ليوم الخميس الذي يعقد فيه السوق، فكما تعلم أن معظم أسواق الجنوب الأسبوعية تسمى بأسماء أيام انعقادها، وليس بأماكن انعقادها.
سوق الخميس، كما سوف ترى، عبارة عن برحتين كبيرتين تتوسطان قرية الباحة؛ إحداهما سفلية وملاصقة لمنازل السكّان، والأخرى علوية، وتبعد قليلاً عن السفلية، ويفصل بين البرحتين ثلاثة ممرات مرصوفة بالحجارة.
أثناء وصف أبي عامر للسوق أدركهما الوقت، فلم ينتبها إلا وهما على أعتاب السوق، فتعذر عليهما بعد ذلك الكلام أو الإنصات لبعضهما بسبب جلبة الناس المرتفعة، وبسبب أصوات الدواب التي تملأ أجواء المكان.
ترجّل الرجلان عن حماريهما، ثم إنهما عمدا إلى إحكام ربطهما في المكان المخصص للدواب، ودلفا بعد ذلك إلى باحات السوق العامرة بالبضائع والمتسوّقين. لفت انتباههما أن باحات السوق منظمة وموزعة على الباعة توزيعًا عرفيًا، لا أحد يجرؤ على تجاوزه أو المساس به، فتجد مثلاً تجّار الحبوب والأرزاق في مكان واحدٍ، وتجّار الأعلاف في مكان آخر، وقس على ذلك مختلف السلع والبضائع. هذا التوزيع المتجانس يخدم عمليتي البيع والشراء في السوق، ويخدم المتسوّقين الذين يبحثون عن خيارات متعدّدة للسعلة الواحدة، وفي مكان واحد.
أثناء تجوال أبو عامر وأبو أحمد في السوق، فقد وجدا أن معظم بضاعةالسوق تأتي من ثلاث مناطق جغرافية مختلفة؛ فأهل السراة بضاعتهم كثيرة ومنوّعة بحكم ازدهار الزراعة في ديارهم، وبحكم علاقتهم التجارية مع مدن الحجاز، لذلك فهم يحضرون إلى السوق أنواع الحبوب، والفواكه، والبقوليات، والسمن، والعسل. ويحضرون أيضًا المستلزمات النسائية، وأنواع الأقمشة، والحُلي، وشيئًا من الأواني المنزلية، والمشغولات الصوفية.
أما أهل تهامة؛ فهم مشهورون بإحضار النباتات العطرية، والدخن، والموز، والبن. كما أنهم يحضرون دهن القطران المستخرج من شجر الزيتون البري، ويحضرون أيضًا المشغولات اليدوية، والمصنوعة من سعف النخل، وكذلك الأدوات الزراعية البدائية.
أهل البادية بضاعتهم في السوق محدودة، وقد لا تتجاوز المواشي، وبعض المنسوجات الوبرية، وشيئًا يسيرًا من الحليب المجفف. ورغم زهد بضاعة أهل البادية؛ إلا أن السوق مهم جدًا في حياتهم العامة، لأنهم يتزودون منه بالمؤن التي تكفيهم لمدة أسبوع أو أكثر.
في منتصف النّهار بُهِرَ الرجلان، فتوقفا عن التجوال في أرجاء السوق. لقد شد انتباههما رجل وقور، ذو هيئة حسنة وصلاح ظاهر للعيان. ارتقى ذلك الرجل مرتفعًا من الأرض وسط السوق، ثمّ بدأ بالتهليل والتكبير، إلى أن أنصت إليه الناس. ثم بدأ يلقي ما يسمى في ذلك الوقت «بدوة»؛ وهي تعني الموعظة الحسنة التي ترقّق القلوب، وتصلح أحوال الناس مع ربّهم، وذلك من خلال تذكيره لهم بحقوق الله تعالى عليهم. وتصلح أحوال الناس مع بعضهم، وذلك بتذكيرهم بحقوق بعضهم على بعض، لم تطل «البدوة» كثيرًا بسبب أنها وليدة لحظتها ومرتجلة، لذلك رجع الناس بعدها إلى الهرج والمرج والتسوّق السّريع، وكأنهم في سباق مع الزمن، فكل واحد من روّاد السوق همّه الأوّل والأخير هو البيع والشّراء قبل حلول صلاة الظّهر، فبعد الصلاة ينصرف معظم النّاس إلى قراهم وهجرهم؛ خاصة أولئك الذين قدموا من مناطق نائية، كحال أبي عامر وأبي أحمد، اللذين أنهيا تسوّقهما بالصلاة في مسجد الباحة، ثمّ توجها إلى حماريهما من أجل العودة السريعة إلى أهليهم. مع السلامة.
المصدر : صحيفة المدينة