بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
علم النسب: علم عَدَّه بعض العلماء من أهم العلوم التي وضعها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة لقوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾([1])([2]).
ولجلالة هذا العلم وفضله أمر الرسول ^ بتعلمه في قوله: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ([3])»([4])، وفي رواية: «اعْرِفُوا أَنْسَابَكُمْ»([5])؛ وقوله ^: «تَعَلَّمُوا» يقتضي الوجوب، ولا يُعلم له صارفٌ؛ والذي فهمه أهل العلم من أمره ^ أنه واجب في مواطن، وكفائي في أخرى، وشاهد ذلك أَنَّ الحافظ ابن حزم الأندلسي(ت456هـ) رأى تعلم النسب واجبًا على المرء لمعرفة من يلقاه بنسب في رحم محرمة ليجتنب تزويج ما يحرم عليه؛ ومنه ما هو فرض كفاية كمعرفة آل النبي ^ والأنصار ليحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم كما أمر النبي ^([6]).
وقد سُئل النبي ^ عن مسائل في النسب، فأجاب لمعرفته بأصول القبائل العربية وبطونها، قال الحافظ الحاكم النيسابوري(ت405هـ): «النسب سُئل عنه النبي ^ فتكلم فيه»([7])، وسيأتي فصل بعنايته ^ بنسب قريش والعرب.
وقد وصف جمع من العلماء علم النسب بأوصاف تدل على جلالته وفضله، منها قولهم:
«علم النسب علم فاضل، جليل، رفيع»([8]).
«علم جهله يضر، وعلمه ينفع»([9]).
«علم عظيم، أشار الكتاب العظيم لتفهمه»([10]).
«علم شريف، جليل القدر»([11]).
«علم لا يليق بذوي الهمم والآداب جهله»([12]).
«علم تسمو إليه النفوس الشريفة، ولا تأباه إلا النفوس الدنية»([13]).
«علم يحتاجه طالب العلم ويضطر الراغب في الأدب والفضل إلى التعويل عليه»([14]).
وعَدَّ الحافظ السمعاني(ت562هـ) النسب من أعظم النعم التي أكرم الله تعالى بها عباده لأن تشعب الأنساب على افتراق القبائل والطوائف أحد الأسباب الممهدة لحصول الائتلاف([15]).
وحفظ النسب يُعد من مقاصد الشريعة التي أمر الشارع بحفظها، وقد دلت على ذلك النصوص ضمنًا أو استقلالاً، وقد نصَّ العلامة محمد الأمين الشنقيطي(ت1393هـ) على أن مقاصد الشريعة ستة أحدها حفظ النسب، وهذا نصه: «فالضروريات التي هي درء المفاسد إنما هي درؤها عن ستة أشياء... وذكر منها:
الرابع: النسب، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، ولذلك حرم الزنى وأوجب فيه الحد الرادع، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت، لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب; قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾([16])»([17]).
ويُدرك قدر هذا العلم ونفعه العلماء والفضلاء وعلى رأسهم الخلفاء، والصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام ٪.
فبه حُفظت حياة العربي في الجاهلية من القتل.
وبه يُوصل الرحم، ويعصب الورثة، وولاية النكاح، والعاقلة في الديات، والخلافة عند من يشترط النسب فيها.
وبه يُعرف آل النبي ^ والمهاجرون والأنصار، ليحسن لمحسنهم ويتجاوز عن مُسيئهم عملاً بوصيته ^.
وبه يُعرف الدَّعِيُّ في أنساب العرب ليُرشد إلى الكبيرة التي ارتكبها([18]).
وبه يميز أهل الحديث بين الثقة والضعيف ممن تشابهت أنسابهم، -وسيأتي بيان ذلك كله-، وهذه الأمور وغيرها تدعو إلى معرفة الأنساب وتؤكد فضل هذا العلم وشرفه.
ومن قلل من شأن علم النسب لم يُدرك أن النبي ^ اعتنى به وأمر بتعلمه، وأن الخلفاء الراشدين والصحابة وكبار التابعين كانوا فرسان هذا العلم، وكذلك أئمة الإسلام وحفاظ الحديث والآثار النبوية وعلماء الجرح والتعديل والفقهاء، ولذلك قال الحافظ ابن عبدالبر(ت463هـ): «ولعمري ما أنصف القائل إن علم النسب علم لا ينفع، وجهل لا يضر«([19]).
ولعل من قلل من شأنه، اعتقد صحة الخبر المنسوب للنبي ^، ونصه: «عِلْمُ النسب لَا يَنْفَعُ، وَجَهْلٌ لَا يَضُرُّ»([20])؛ وهو خبر لا يصح رفعه للنبي ^ كما قال الحافظ ابن حزم الأندلسي(ت456هـ)، وهذا نصه: «وهذا باطل ببرهانين: أحدهما: أنه لا يصح من جهة النقل أصلاً، وما كان هكذا فحرام على كل ذي دين أن ينسبه إلى النبي ^؛ خوفَ أن يتبوأ مقعده من النار، إذ تَقَوَّل عليه ما لم يقل؛ والثاني: أن البرهان قد قام بما ذكرناه([21]) على أن علم النسب علمٌ ينفع، وجهل يضرُّ في الدنيا والآخرة، وكان رسول الله ^ يتكلم في النسب»([22]).
وقد ضعَّف هذا الحديث أيضًا: علي بن عبدالعزيز الجرجاني(ت392هـ)، والحافظ ابن عبدالبر الأندلسي(ت463هـ)([23])، والحافظ ابن حجر العسقلاني(ت852هـ)([24])، والعلامة محمد ناصر الدين الألباني(ت1420هـ)([25]).
قلت: وببيان الحفاظ ابن حزم، وابن عبدالبر، وابن حجر، والألباني لضعف هذا الحديث يسقط استدلال المزهدين في فضل علم النسب والقائلين: بأنه علم لا ينفع.
ولو صح خبر «علم النسب لا ينفع» لحُمل هذا الحديث على نهي التعمق في علم النسب لا الزهد فيه وتركه، قال العلامة المناوي(ت1031هـ) في تعليقه على هذا الحديث: ««علم النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر» هذا لا ينافي ما سبق من الأمر بتعلمه لتعين حمل هذا على التعمق فيه حتى يشغله عما هو أهم منه من الأحكام الشرعية ونحوها وذاك على ما يعرف به الإنسان فقط»([26]).
أَلَا يعلم المزهد في هذا العلم أَنَّ من أعلم الناس به الخليفة أبا بكر الصديق القرشي ¢، قال النبي ^ : «أبو بكر أعلم قريش بأنسابها«([27]).
وقال المؤرخ النَّسَّابة القلقشندي(ت821هـ): «كان أبو بكر الصديق ¢ في علم الأنساب بالمقام الأرفع والجانب الأعلى، وذلك دليل وأعظم شاهد على شرف هذا العلم، وجلالة قدره»([28]).
وما فرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ¢، وأمير المؤمنين عثمان بن عفان¢، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ¢ ديوان القبائل، إذ فرضوه إلا على القبائل؛ ولولا علمهم بالنسب، ما أمكنهم ذلك([29]).
وهكذا كان بقية الخلفاء والصحابةرضي الله عنهم- مبرزين في علم النسب، وكذلك التابعون وأئمة الإسلام.
وقد بيَّن الحافظ النَّسَّابة ابن حزم الأندلسي(ت456هـ) في موطن آخر ضعف حديث «علم النسب لا ينفع والجهل به لا يضر» من حيث متنه، فقال: «كان أبو بكر الصديق ¢ من أعلم الناس بالأنساب، وقد أمر رسول الله ^ حسان بن ثابت ¢، أن يأخذ ما يحتاج إليه من علم نسب قريش عن أبي بكر الصديق ¢، وهذا يكذب قول من نسب إلى رسول الله ^ أن النسب علمٌ لا ينفع، وجهل لا يضر، لأن هذا القول لا يصح»([30]).
وهكذا رد الحافظ ابن عبدالبر(ت463هـ) على من قلل من شأن علم النسب وعدم نفعه، فقال: «فلو كان لا منفعة له، لما اشتغل العلماء به، فهذا أبو بكر الصديق ¢ كان أعلم الناس بالنسب، ولعمري ما أنصف القائل إن علم النسب علم لا ينفع، وجهل لا يضر«([31]).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبها
الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
ص. ب: 10403 جـدة 21433
المملكة العربية السعودية
البريد الإلكتروني: hashemi89@hotmail.com
10 جمادى الأولى 1436هـ
الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
ص. ب: 10403 جـدة 21433
المملكة العربية السعودية
البريد الإلكتروني: hashemi89@hotmail.com
10 جمادى الأولى 1436هـ
التعليقات الهامشية:
([1]) الحجرات: 13.
([2]) «الأنساب» (1/36).
([3]) منسأة في الأثر: يعني زيادة في العُمر. «لسان العرب» مادة «نسأ».
([4]) الحديث في «الجامع» للترمذي برقم (1979)، وصححه العلامة الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» برقم (2520).
([5]) الحديث في «مسند أبي داود الطيالسي» برقم (2880)، «المستدرك» (4/161)، وصححه العلامة الألباني في «السلسلة الصحيحة» برقم (277).
([6]) «جمهرة أنساب العرب» (ص3).
([7]) «معرفة علوم الحديث» (ص170).
([8]) «جمهرة أنساب العرب» (ص2، 4).
([9]) «جمهرة أنساب العرب» (ص4). «طبقات النسابين» (ص8).
([10]) «أبجد العلوم» (ص302).
([11]) «قلائد الجمان» (ص9).
([12]) «الإنباه على قبائل الرواة» (ص37).
([13]) «معجم الأدباء» (1/30).
([14]) «اللباب في تهذيب الأنساب» (1/7).
([15]) «الأنساب» (1/37).
([16]) سورة الإسراء: 32.
([17]) «أضواء البيان» (3/48).
([18]) لقول النبي ^: »لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ-وَهُوَ يَعْلَمُهُ- إلا كَفَرَ بِالله، وَمَنِ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهْم نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ«. «صحيح البخاري» برقم (3317)، «صحيح مسلم» برقم (61).
([19]) «الإنباه على قبائل الرواة» (ص12).
([20]) الحديث في «الجامع» لابن وهب برقم(31)، وضعفه العلامة الألباني في «الجامع الصغير» برقم (3725) و «السلسلة الضعيفة» برقم (3872).
([21]) يعني عناية النبي ^ بالنسب والصحابة الكرام والتابعين والأئمة، ونفائس أخرى تقطع بشرف هذا العلم ونفعه، فانظره إن شئت في مقدمة كتابه «جمهرة أنساب العرب».
([22]) «جمهرة أنساب العرب» (ص4).
([23]) «تاريخ ابن خلدون» (3/7).
([24]) «فتح الباري» (6/527).
([25]) «السلسلة الضعيفة» برقم (3872).
([26]) «فيض القدير» (4/417).
([27]) «صحيح مسلم» برقم (2490).
([28]) «قلائد الجمان» (ص 9).
([29]) «جمهرة أنساب العرب» (ص 5).
([30]) «جمهرة أنساب العرب» (ص5).
([31]) «الإنباه على قبائل الرواة» (ص12).