في وادي فاطمة حركة ثقافية قاومت التغييب (1-2)
بدر اللحياني - باحث في تاريخ الحجاز
بدر اللحياني - باحث في تاريخ الحجاز
نتيجة لقلة المصادر التي كتبت عن النشاط الثقافي بوادي فاطمة، ولانعدام أي إنتاج علمي خاص بسكان هذا الوادي يمكن تحليله وفهم محتواه، فقدنا الكثير من العادات الثقافية والأحداث التي ربما مرت بها المنطقة، وقلة المصادر ليس مختصرا عليها فهو أمر مشترك مع بقية الحواضر والبوادي بالجزيرة العربية باستثناء عدد يسير من حواضر الحجاز التي اهتم العلماء بتوثيق مناشطها الثقافية.
توثيق الهاشمي
ومن القليل الذي كتب عنها تأتي ومضات سجلها ابن فهد الهاشمي المتوفى 954هـ في كتابه حسن القرى، وبعض الكتابات الصخرية المجاورة للحواضر الزراعية تعود للقرون المتقدمة أو الوسطى، ومن أهم المراحل التاريخية التي شهدها الوادي في التاريخ الإسلامي، استضافته جيش المسلمين في السنة الثامنة للهجرة قبيل فتح مكة بليلة واحدة، ومن قبل في الجاهلية كانت تخترقه قوافل قريش الصيفية، ولا شك أن اقتراب الوادي من مكة المكرمة قد هيأ له طقسا ملائما لإنجاز حركة تعليمية وثقافية واسعة، إضافة إلى الجو الزراعي المستقر الملائم.
ولكن إهمال مركز السلطة في تلك الفترات بالمنطقة قلص هذه الفرصة وفوت قيمتها، وانحسر الاهتمام بالمنتج الزراعي واستغلال الأراضي فقط، وهذا بدوره ساهم بشكل رئيس في ضعف تطور المد الثقافي، باستثناء إضاءات تلقاها الوادي خلال القرنين التاسع والعاشر الذي شهد نوعا من الاستقرار السياسي.
ويظهر بأن النشاط العلمي انحسر في أفراد قلائل تلقوا تعليمهم حول الحواضر الزراعية، من خلال المساجد المنتشرة على أطراف القرى الصغيرة، ومن أهمها «البرقة، الجموم، أبي عروة، المرشدية، البرابر، الروضة، التنضب، الدخان»، وهكذا ظل الوادي لا تصله سوى ومضات يسيرة جلبها النخبة المثقفون القادمون من مكة المكرمة، ولم تكن كافية لتوطين مراكز علمية تحافظ على إرثها الثقافي وتفيض نحو بقية الحواضر.
كتابات على الصخور
خلال تتبع بعض الآثار ظهرت بعض المدونات الكتابية الصخرية، بسفح شعب الجرجور شمال الجموم، وجدت مدونات تذكارية نفذت بطريقة النقر على صخور بازلتية متداخلة مع كتابات ونقوش عربية قديمة، ولكن تظل قيمتها التاريخية منخفضة جدا بسبب غياب الضبط التاريخي، ومما كتب اسم أحد الفقهاء مثبتا على إحدى الصخور وهو محمد بن جبر بن محمد، معرف في النقش بالفقيه، ومع هذا لم نعثر على ترجمة لهذا الفقيه في التراجم المكية، كما لم يظهر تاريخ يوثق زمن كتابة هذا النص، ولكن بموجب طريقة تنفيذ الخطوط فالنقش يعود للقرن الثالث أو الرابع الهجري.
إضافة إلى ما ترجمه شمس الدين السخاوي في كتابه الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، وكتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين لمحمد الفاسي، ذاكرين بعض الأعلام المكيين المتواصلين مع الجموم ووادي فاطمة، فيشي بقدر محدود من التواصل المعرفي، حيث لم تقدم هذه التراجم لأعلام علمية من وادي فاطمة، ولم تظهر مشاريع نافذة كإنشاء مدرسة أو غير ذلك من المباني ذات البعد الثقافي.
والذي نعرفه عموما هو أن الأمية ظلت مسيطرة بشكل واسع على وادي فاطمة، خاصة بعد تراجع المد الفقهي عقب التفكك السياسي والاضطراب الأمني الذي كان ينتاب مركز السلطة بمكة المكرمة. أما القرن التاسع والعاشر فيظهر من خلاله الاستقرار السياسي والاقتصادي، بدليل وجود أعلام كبار أمثال السخاوي والفاسي والهيتمي والذين كانوا يمارسون نشاطهم العلمي بمكة.
الثقافة الدينية
أما أكثر الإضاءات العلمية وصولا للوادي هي الثقافة الدينية، وبقيت أشد وضوحا خلال القرن التاسع، ويعود الفضل في تثبيتها وتدوينها للمؤرخ جار الله محمد القرشي الهاشمي، واستطاع أن يثبت مثل هذه الملامح في مخطوطته المعروفة بـ»حسن القرى في أودية أم القرى»، حيث المؤرخ نماذج رائعة كقوله في حديثه عن الجموم: «ووقع لي فيها سماع الحديث الشريف، وبعض نظم حسن ظريف...»، وهذا يثبت بوضوح أن هناك مجالس علمية كانت تدار بالجموم كما يقول: «ثم سمعت من لفظ الحجة شيخ الأدباء منتهى زمانه أبي الطيب أحمد بن الحسين الشهير بالعليف المكي رحمه الله تعالى في عام التاريخ الماضي بها ووجدته مكتوبا بمسجد وادي الجموم قوله فيه على العموم:
نزلنا بالجموم نهار قيظ
ومنثور الربيع طوى بساطه
قطعنا يومنا في طيب عيش
برأس العين في ظل الحماطه»