مكة المكرمة في القرن الرابع الهجري
د. عدنان عبدالبديع اليافي
28/10/2008م
ندين لبعض الرحالة بفضل معرفة قسم كبير من تاريخ بعض الأماكن الهامة والتي سجلت عدسة ذاكرتهم الأحداث التي حصلت فيها وسطر يراعهم وصفاً لمواقع ومدناً زاروها فقدموا وصفاً لعمائرها وشوارعها ومبانيها ومعاشها وأهلها (ملابسهم وعاداتهم) في أزمنه لم تعرف التلفاز أو السينما ولولا هؤلاء المؤرخون لضاع بعض من تاريخنا وتاريخ هذه الأماكن الهامة والتي تأتي مكة المكرمة في مقدمتها ومن هؤلاء كان الرحالة محمد بن أحمد البشاري المقدسي صاحب كتاب \" أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم\" والذي تحدث عنه ووصفه أحد الباحثين الجادين هو الدكتور عبدالعزيز بن راشد السنيدي وصفاً شيقاً بتحليل سهل ممتنع ورد في كتابه القيم الموسوم \" مكة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري\" والذي حلق من خلاله الدكتور السنيدي في مكة المكرمة من خلال عدسة ذاكرة المقدسي عندما زارها هذا الرحالة في القرن الرابع الهجري وسجـل ما رآه في كتابه \" أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم\" بعد أن قرر تأليف كتاب شامل يصف فيه البلدان الإسلامية اعتمد فيه بالدرجة الأولى على السماع المباشر والمعاينة.د. عدنان عبدالبديع اليافي
28/10/2008م
وقد بين لنا السنيدي أن المقدسي - رحمه الله - قضى من عمره لهذا الهدف عشرين عاماً يتنقل بين مختلف الأقاليم الإسلامية يحتك مع مختلف الأجناس بها ويستفيد من أهل العلم ويطلع على المكتبات في البلاد والتي يزورها.
كان ذلك في القرن الرابع الهجري ذلك القرن الذي كان التقدم العلمي فيه قد بلغ مكانة كبيرة. وقد حج المقدسي سنة 356هـ/966م وحج مرة أخرى عام 367هـ/977م وجاور في مكة وأخذ عن علمائها.
وقد يكون من الأنسب أن نبدأ بنبذة تعريفية عن صاحب كتاب \" أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم\" فمن هو المقدسي :
يذكر شاكر لعيبي في تقديمه لرحلة المقدسي معرفاً صاحب الرحلة بأنه \" أبو عبدالله محمد بن أحمد بن البناء البشاري المقدسي\" ذكره ياقوت في (معجم البلدان) وهو ينقل عنه وصفه لمدينة بيت المقدس التي ولد بها وارتبط اسمه بها.
وكان ياقوت يدعوه تارة بنسبته (البشاري) وأحياناً بإسمائه الأخرى مثل (ابن البناء) ويضيف قائلاً : أن المقدسي ولد عام 336هـ أي 947م وأنه توفي سنة 380هـ الموافق 990م. كما يذكر اللعيبي أن رحلة المقدسي هي ثمرة سنوات طوال من الأسفار والترحال في أقاليم العالم القديم امتدت من سنة 965م إلى 984م.
ويرى الدكتور السنيدي أن نتيجة تلك الأسفار أن أتحفنا المقدسي بكتابه الذي أطلق عليه اسم \" أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم\" الذي لم يخرجه للناس إلا في سنة 375هـ/985م بعد أن بلغ الأربعين من العمر وأقر مادته العلمية جمع من الأئمة والعلماء بعد أن استشارهم في اصداره.
وقد ارفق المقدسي مع كتابه خريطة ملونه تبين الحدود ورسم البحار والأنهار والجبال وغير ذلك إلا أن هذه الخريطة فقدت ولم توجد مع الأسف إلى الآن.
ويذكر السنيدي أن أهمية كتاب المقدسي أنه سلط الضوء على جوانب لم تحظ باهتمام ممن سبقوه كما يضيف أن كثيراً من الكتاب ادركوا الأهمية العلمية لهذا الكتاب ، ويذكر لنا أن \" سبرنجر كشف أول مخطوطة لأحسن التقاسيم فاعتبر أن المقدسي من أكبر جغرافيي العالم ، وعد كرامزر كتاب المقدسي أفضل مصنفات الأدب الجغرافي العربي\".
والمقدسي الذي قسم الأرض إلى سبعة أقاليم جعل مكة في الأقليم الثاني منها ووصف تضاريس مكة وذكر محاذاة جبل قعيقعان وأبي قبيس لبعضهما البعض وكأنه يشير دون تصريح بوقوع مكة بينهما كما يوضح السنيدي.
وينقل السنيدي عن المقدسي قوله عندما زار مكة أن \" كل ما نزل عن المسجد الحرام يسمونه المسفلة ، وما ارتفع عنه يسمونه المعلاه ، وعرضها سعة الوادي والمسجد في ثلثي البلد ، أي المسفلة والكعبة في وسطه . ويقول السنيدي أن المقدسي بين لنا أن مكة كانت خلال زيارته لها عبارة عن جزئين ، المعلاه في شمال وشمال شرق المسجد الحرام ، وتشكل بمساحتها العمرانية ثلثي البلد ، في حين تأتي إلى الجنوب تقريباً من المسجد المسفلة ويشكل عمرانها الثلث المتبقي من مكة \".
وذكر المقدسي في حديثه عن مكة أنها كانت عندئذٍ أكبر من بيت المقدس وأن عمارة المدينة المنورة في زمنه كانت أقل من نصف عمارة مكة المكرمة.وذكر كثرة عدد سكان مكة وازدهار تجارتها آنذاك.
كما ذكر أن مكة إبان زيارته لها كانت محصنة بالأسوار وبين أن الدخول إليها يأتي عبر أربعة أبواب يصفها السنيدي بأنها أبواب مصنوعة من الحديد ، أثنين منها في الجهة الشرقية من السور حيث يدخل منها القادمون من العراق ، والثالث في الجهة الشمالية ومنه يدخل القادمون من جهة التنعيم ، أما الرابع ففي الجهة الجنوبية ، وعبره يجتاز إلى داخل مكة الوافدون من اليمن\".
كما ينقل السنيدي وصف المقدسي دور مكة وبنائها والمواد المستخدمة في ذلك حيث ذكر أن \" منازلها على شكل طبقات ، تبنى من الحجارة المختلفة الألوان والآجر ، وتسقف بخشب الساج\".
كما وصف المقدسي في كتابه الكعبة المشرفة ولو بشكل مقتضب دون الدخول في التفاصيل وذكر أن ارتفاع الكعبة سبعة وعشرون ذراعاً ، وقال أن مسافة الطواف مائة وسبع أذرع.
كما وصف الحجر الأسود وقال أنه \" على الركن الشرقي عند الباب على لسان الزاوية مثل رأس الإنسان ينحني إليه من قبله يسيراً\".
أما عن حجر اسماعيل فقد تحدث المقدسي عن ذرع تدويره فذكر أن \"ذرع تدويره خمسة وعشرون ذراعاً \" .
كما وصف موقع الحِجْر وشكله بقوله \" والحجر من قبل الشام فيه يقلب الميزاب شبه اندر(ويعرف السنيدي نقلاً عن لسان العرب الاندر بانه البيدر) قد البست حيطانة بالرخام مع أرضه ، وإرتفاعها \"حقو\" ويسمونه الحطيم , والطواف من ورائه. \"ويعرف السنيدي نقلاً عن ابن منظور الحقو بأنه \"الخصر ومشد الازار من الجنب\".
أما عن عمارة المسجد الحرام فإن المقدسي أتحفنا بمعلومات عنها , فذكر عمارة الخليفة العباسي المنصور والتي استغرقت ثلاث سنوات من عام 137هـ / 754م إلى عام 140هـ / 757م وذكر اعتراض بعض أصحاب المنازل المحيطة بالمسجد ولكن تدخل الامام أبوحنيفة - والذي صادف أن كان حاجا ذلك العام - أقنع أصحاب الدور بالموافقة على التوسعة نظراً لضرورتها . وتحدث المقدسي عن المسجد الحرام فذكر أن طوله كان يبلغ ثلاثمائة وسبعون ذراعاً , وعرضه ثلاثمائة وخمسة عشر ذراعاً\" .
كما ذكر المقدسي أن للمسجد انذاك تسعة عشر باباً , قام بذكر أسمائها كمايلي ( باب بني شيبه , باب النبي , باب بني هاشم , باب الزياتين ، باب البزارين ، باب الدقاقين ، باب بني مخزوم , باب الصفا , باب زقاق الشطوي , باب التمارين , باب دار الوزير ، باب جياد ، باب الحزوره ، باب ابراهيم , باب بني سهم , باب بني جمح , باب العجلة , باب الندوة, باب البشارة ) .
ويذكر السنيدي أن بعض هذه الأسماء أطلقها المقدسي اجتهاداً منه حسب ما رأه منتشراً من باعه وأسواق وبضائع لفتت انتباهه حول هذه الأبواب .
أما عن المطاف فذكر المقدسي أن مكان الطواف مفروش بالرمل بينما يغطي الحصى بقية أرض المسجد وتحدث عن إنارة المطاف وأشار أن القناديل كانت تعلق بالسلاسل . ووضح المقدسي كيفية إنارة المطاف ذاكراً أن هناك أعمدة , أطلق عليها أسم الأميال , مصنوعة من حديد الصفر , وتصل بينهما أخشاب تعلق فيها القناديل بالسلاسل , وفي هذه القناديل كانت توضع الشموع \" .
ثم تحدث المقدسي عن بئر زمزم قائلاً \" وقبة زمزم تقابل الباب والطواف بينهما \" مبيناً أن موقع بئر زمزم مقابل لباب الكعبة . أما عن مقام إبراهيم فتحدث المقدسي قائلاً \" والمقام بازاء وسط البيت الذي فيه الباب , وهو أقرب إلى البيت من زمزم , يدخل في الطواف أيام المواسم \" وتحدث عن صندوقين خصصا لتغطية المقام حسب الظروف والمناسبات أحدهما مصنوع من الخشب والأخر من الحديد . وأورد السنيدي ذكر ابن جبير في رحلته لهذين الصندوقين بحيث يوضع الصندوق الحديد على المقام أثناء الموسم ليحتمل الزحام , أما في الأيام العادية فيوضع عليه صندوق من الخشب . هذا بما يخص المسجد الحرام أما عن مدينة مكة المكرمة فبالإضافة إلى ما ذكرنا فقد تحدث المقدسي عن مصادر الماء بها فذكر ثلاث برك بقوله \" وبمكة ثلاث برك تملأ من قناة شقتها زبيدة من بستان بني عامر \" .
وتحدث المقدسي عن أسواق مكة وقد ذكرنا تسميته لبعض أبواب المسجد الحرام وعلاقتها لبعض السلع التي كانت تباع قربها كما قال المقدسي في حديثه عن المسجد الحرام :\" ويتبين من حديث المقدسي والمعلومات التي أوردها كثرة الأسواق وانتشارها حول المسجد الحرام\". وذكر المقدسي أن الفواكه كانت تجلب إلى أسواق مكة من الطائف كما تحدث عن البلدان التي تجلب منها الملابس والثياب إلى مكة فقال :\" ومن طبرستان الأكسية التي تفضل على الفارسية وطيالسه وثياب الخيش المحمولة إلى الأفاق ويباع منها بمكة شيء كثير صغار الدراهم وكبار تسمى بالغرب المكية واللفائف \" . وذكر المقدسي بعض النقود المتداولة في مكة فقال كما نقل السنيدي \" لأهل مكة المطوقة وهي والعثريه ثلثا المثقال تؤخذ كدراهم اليمن عدداً وتفصل العثريه حتى ربما كان بينهما دريهم \" .
وعن الدراهم المتداولة في مكة قال المقدسي \" والدراهم المستعملة في الأقاليم تسمى بمكة المحمدية \"
هذه ملامح من مكة المكرمة كما رآها وسجلها المقدسي رحمه الله بدقة وتوسع بعدسة ذاكرته قبل أكثر من ألف عام في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي وبينها في كتابه \" أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم \" ونقلها بتحليل واسع جيد ودقيق الدكتور عبدالعزيز بن راشد السنيدي في كتابه القيم الموسوم \" مكة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري \" قمت بنقل بعض ما فيه بتصرف لما لهذه الرحلة من أهمية يشكر الدكتور السنيدي على إبرازها وتسجيلها ونقلها للقاريء.
الدكتور عدنان عبدالبديع اليافي
28/10/2008م
28/10/2008م