الأَمَاليْ التُربَانِيَة .. { المجلس الأول } .. ( مَعادِنْ الَناسْ في الخصُومَةَ ) ..
الْحمد للهِ رَبِّ العالمين وَ الصّلاةُ وَآلسَّلامُ على رَسول الله وعلى آلهِ وصَحبهِ أجْمَعين وَبَعْدُ :
فَقَد جَرَتْ بَيْني وَبَينَ أحد الأُخوَةُ مُدارَسةٌ حَولَ { الفجورُ في الخُصومَة } المُنتشرة بَينَ { لُقطاءِ العِلم } حَيثُ إذ لَمْ تُوافقهم في مَسّألةٌ وخَالفتُ أهوائِهم بِكلامْ عِلمّي رَصينْ .. يَنهالوا عَلَيكَ بـ { الكَذب و التُهم } وغيرُ ذلِكَ من أنواعُ { الفجور } ..
فَقُلتُ :
قالَ الرَب سُبحانه : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ( المائدة8 ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " .
فالناسُ مَعادن كَمَعادن الذَهبُ والفِضةُ والنُحاس والحَديد ، فَعِندَّمَا تَدَّعكَّ مَعدَنُ الرَجلُ إما بـ { خُصومةٌ أو تِجارة أو سفرٌ .. } يَتضحُ لكَ حقيقتهُ ..
فالرجلُ صاحِبُ مَعدنُ الذَهب لا يَضُركَ ولا يَكذِبُ عليكَ ولا يتَهِمُكَ بِمَا لَيسَ فيكَ ، بَل تَجِدَهُ شَريفاً وَذَهباً حَتى في خُصومتهِ مَعكَ .. فَالنَسبُ الكريم له تأثير قَوي في أخلاقُ المُخاصم ، فَلا تَجدهُ فاجراً بَل أصلهُ الكريم يُجبره بالعَدلِ والإنصافٌ في خُصومَتهِ ..
أما صَاحبُ المَعدنُ السيئ فلا تَستَغربْ منهُ أي شيء ( ! ) من كَذب وفجور وخِسةٌ ... الخ ، فهوَ { إن خاصَمَ فَجَرْ } لأن أصولهُ خَسيسةٌ فَهيَ تُخرِجُ ما في مَعادِنُها .. فَلا غَرابة ..
ومن نَماذِج خِسةُ المَعادن تَبرقع بعضُ الأشخاص بـ { أسماء مُستعارة } كي يُفرغوا ما طَفحَ من خِسة أصولُ معادنهم في خَصمهم ( ! ) ... فهم قد جمعوا ما بين { الجُبن و خِسة الأصول } ..
فالكريم وأصحاب معادنِ الذهبِ والفضة من أطهرِ الناس في خُصومتهم ... وأما معادنُ النذالةُ والخِسة فإن خاصمتهم ، فلن تَجِدَ مِنهم إلا الكذب عليك واتهامك بِما ليسَ فيك ، لأنهم أهلُ خِسةٌ لا يَستطيعوا أن يُجاروا العلمَ والأخلاق الكريمة ، فيلجأوا إلى التَشويش بالكذب والفجور ...
وهذهِ بِضاعةُ مَعادنُ أهل الخِسة والنَّذالة ..
وَمِن صِوَر العَدل في الخُصومَة ما أورَدَهُ ابن هِشام في { السيرة } ( 644 ) { لَقيَ رَسولَ الله- صلى الله عليه وسلم-نَفرٌ مِن المُسلِمين يُهَنئونَهُ بَِما فَتَحَ الله عَلَيه في بَدر فَقَالَ لهَم سلمة بن سلامة: مَا الذي تُهنئوننا بهِ ؟ فَوالله إن لَقَينَا إلا عَجَائِز صَلعا كَالبدن المُعَقلَة، فَنَحرنَاهَا، فَتَبَسمَ رَسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثمَ قَال: أي ابن أخي ، أولئك الملأ. قال ابن هشام : الملأ الأشراف والرؤساء }.
فَقد أقَرَ رسولنا الكَريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ شَرَفِهم وَسيادَتهم رَغمَ خُصومَتهِ لهم ، فَهذا مِن إنصاف أفضَلُ البَشر مُحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وهذا عبد الله بن الزَّبْعري كان مِن أشدُ الشُعراء عَداوة للمُسلمين فقالَ يَصفُ المُسلمين في غَزوة أُحد :
كَمْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ سَيِّدٍ مَاجِدِ الجَدَّينِ مِِقْدَامٍ بَطَلْ
فَهو يَصِفُ المُسلمين بالشَجاعةِ ونَجابةُ النَسبِ ، فَلم تَدفعهُ خُصومتهِ للكَذِب والتَهكم ووَصفهم بِما لَيس فيهم ..
بل هذا الأسْوَدُ بنُ قُطْبَةَ التميمي يُنصف { الفُرس ـ العجم ـ } " يوم أُلَّيسٍ " فيقول :
لَقينا يَومَ أُلَّيسٍ وَأَمغى وَيَومَ المَقْرِ آسادَ النَهار
فَلَم أَرَ مِثلَها فَضِلاتِ حَربٍ أَشُدّ عَلى الجَحاجِحَةِ الكِبارِ
فَهو يَصفُ شَجاعةُ { الفُرس } رَغم أنهم خُصوم ، وَلم تَدفعهُ الخُصومَة للحَط مِن قَدرهم .. وهذهِ الشَواهد والوَقائع مِن صِوَر العَدلِ في الخُصومة كَثيرة جِداً في أشرافُ العَرب ، فَقد قالَ نَبيُنا ـ صَلى الله عليه وسلم ـ : ( إنَما بُعِثتُ لأُتَمِمَ مَكارِم الأخلاق ) .
وَكَذلك ِمن طَهارةُ بَعض مَعادن شُعراء البَدو في عِشقهم رَغم جَّورْ الحَبيب على قُلوبهم ورَغمُ الهَجرُ والتَنكيلُ ، لَّم يَصدَّحوا إلا بأصالة أخلاقِهم وكَرمُ معادِنهم ، فَغَرَّدَّ أحدهم قائلاً :
عَسَى دَارَه تجودّ مِن وَبلّ السُحب تَرتوي ؛ والقَاع يَلقونه خصيب
فَرغم جَّورُ الحَبيب ، يُغرد ذاكَ البَدوي صاحب المَعدن الكريم ويَدعوا للمحب بأن تَسقي السُحب دياره وتُرويها ...
وَقد ذَكر رواة الأعراب قِصة رَجل تَخاصم مع زَوجَتهُ حَتى طَّلقها وَهذا الرَجل مِن قَبيلةُ { بِلي القُضاعية } وَهذه القَبيلة تَنتشرُ في شمال الحِجاز وفي الشام ولهم نواقل في { صعيد مصر } ؛ فَبعد مُدةٌ نَدَمَ ذاك الرجلُ على تَسرعه وشَتمه لزوجَته وطّلاقهِ .. فَقالَ :
نَّوختْ سَمحة فوق مَزموم الاطعاس أرمي نَظر عيني على قَد ظَني
جِيت المراح وشُفت به مَشعة الرأس وذَّكّر عليّ جروحي يلّي مَضَنّي
فَبقايا شَعرُ زَوجتهِ حِينَ كانت تَمتَشط ، هَيجتْ قَلبُ زَوجُها فَحَنَّ وَنَّدِمَ عَلى فِعلتهِ ..
فَرَدَ عليه والدُ زوجَتهِ حين سَمِعَ أبياته هذهِ ، ومِنها هذا البَيت :
وحياة جَّلاب المطر مُغني الناس يَافيكْ نياتُ الردى ما طَّرَنّي
أي أن زَوجَتهُ لم تَفجُر في الخُصومة وتُكيلُ التُهم والأكاذيب على زوجُها ، بل أكرَمتْ سِيرة زَوجُها .. فهذا أنموذَجاً من تِلك المَعادن الشَريفة في الخُصومةِ والخِلافيات بأنواعِها .
وَلو استطردتُ في هذا النَّوعُ لما كَفاني كُرَّاسة فيهِ ، وأحوالُ البدو في هذا كثير ..
وهذا { جَرير والفرزدق } كَم وكم تهاجوا وذَموا بعضهم البعض ، وثارت الحُروب بينهما ، فَلمّا مات { الفرزدق } رثاهُ جَرير بأبياتٌ ألذُ من وَصلُ غانية وطيبُ عِناق ( ! ) فقالَ :
لَعَمْرِي لَقَدْ أشجَى تَميماً وَهَدّها على نَكَباتِ الدّهرِ مَوْتُ الفَرَزْدَقِ
وهذا من طَهارةُ مَعدنِ جَرير ، فَهو يَرثي ويَمدحُ خَصمهُ الفَرزدق رَغم الحُروب الشِعرية بينهما وَلم تَدفَعهُ الخُصومَة للحَطِ مِن قَدرِ الفَرزدق أو الكَذِب عَليه ..
وَما أجملُ قَول الشاعِر :
إنَ الكَـريمَ إذا تمَكَنَ مِن أذَى جَاءِتهُ أخلاقُ الكِـرَام فأقلَــعَا
فَالأخلاقُ عَزيزةٌ ، وأصبَحت مَعادن الذَهب في الرجال اليوم كَالكبريت الأحمر ، وَقد شَاهدنا خُصوم من أكرم الناس خُلقاً أهلُ عَدلٌ وإنصاف ، وشَاهدنا خُصوم من أخسِ خَلق الله ومن أحطّ المعادن والأصول ، تَربوا على الكَذب والفجور والنذالة ، وتَجد أحدهم مُستعد بأن يُقسم بالله ويُباهل كذباً على خَصمهِ .. فنعوذ بالله من هذه المعادن العَفِنة والتي تُصور لَكَ دَناءةَ أصولها ..
وَكَتَبه :
أحمَد بن سُليمان بن صَباح أبو بَكرة التُرباني .
أحمَد بن سُليمان بن صَباح أبو بَكرة التُرباني .