المقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإنَّ النصوص التاريخيَّة الواردة في "تاريخ الطبري" عن معركة القادسية، وفتح المدائن، ومعركة جلولاء، تُعدُّ أهمَّ المصادر التاريخية الأصلية، التي اعتمد عليها الباحثُ في دراسة موضوع بحْثه الموسوم بـ"قراءة في تاريخ الطبري عن معركة القادسية وفتح المدائن".
فتاريخ الطبري يُعدُّ من المصادر التاريخية الأصلية في أخبار الفتوحات الإسلامية في العراق في العصر الراشدي، فقد تتبَّع أخبارَها، ورَصَد أحداثها، وعلَّل أسبابها، ودوَّن مادةً علميةً غزيرةً عنها ذات قيمة تاريخية، قلَّما يَجِدُ الباحثُ مثلها في غزارتها، وشمولها، واتِّساعها في مصدر تاريخي آخر، حتى في المصادر التاريخية الموسومة بـ"فتوح البلدان".
وقد اعتمد الطبريُّ في تتبُّعه لأخبار الفتوحات الإسلامية في العراق، ورصْده لأحداثها على مصادر تاريخية أصلية ضاعتْ أصولها، فحفظ لنا كثيرًا من مادتها العلمية في كتابه الموسوم بـ" تاريخ الرسل والملوك، أو تاريخ الأمم والملوك ".
وإنَّ مَن يطالع كتاب "الفهرست" للنديم، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة، والكتب التي عُنِيت بتاريخ التراث العربي الإسلامي[1]، يلاحظ أنَّ عددًا من الأخباريِّين والمؤرخين المسلمين ألَّفُوا كتبًا في الفتوح غطَّتْ معظمَ أقاليم الفتوح في صَدْر الإسلام، إلاَّ أنَّ عددًا كثيرًا من تلك المؤلفات فُقِدتْ أصولها، لكن كثيرًا من مادتها العلمية وصلتْ إلينا عن طريق الطبري، وغيره من المؤرِّخين المسلمين.
ومَن يقرأ النصوص الواردة في تاريخ الطبري "تاريخ الرسل والملوك، أو تاريخ الأمم والملوك"، يلاحظ أنَّ الطبري اقتبس كثيرًا من مادة تاريخِه العلمية المتعلِّقة بأخبار القادسية، وفتح المدائن مِن مصادرَ أصلية في الفتوحات الإسلامية في جبهة العراق، اتَّسمت بالدِّقَّة والتفصيل خلالَ تتبعها لأخبار فتح العراق، وقد حَفِظ الطبريُّ كثيرًا من مادتها العلمية في تاريخه.
وإنَّ مَن يُمعن النظر في النصوص الواردة في تاريخ الطبري عن معركة القادسية، وفتح المدائن يلاحظ: أنَّ مرويات سَيْف بن عمر[2] في الفتوح تُعدُّ من أهمِّ المصادر الأصلية، التي اعتمد عليها الطبريُّ في إيراده لأخبار الفتوحات الإسلامية في جبهة العراق.
وقد رَصَدتْ مروياتُ سيف بن عمر معلوماتٍ جيِّدة عن تسلسُل أحداث القادسية وترابطها، ودَوَّنتْ معلوماتٍ واضحةً عن أسباب القادسية، وأحداثها وأيَّامها.
وعن أهمِّ النتائج التي ترتَّبتْ على نصْر المسلمين فيها، وكشفتْ مرويَّات سيف، عن خطط المسلمين لفتح المدائن، وعن الخُطوات والوسائل التي اتَّخذوها لتحقيق ذلك، وقد بلغت مرويات سيف بن عمر التي دوَّنها الطبريُّ في تاريخه عن معركة القادسية، وفتح المدائن، ومعركة جلولاء، مائتين وإحدى وعشرين رواية[3].
وقد حَفِظتْ مرويات سيف مادةً علمية غزيرة عن القادسية، وفتح المدائن، قلَّما توجد في مصدر تاريخي آخرَ، حتى في المصادر الموسومة بـ"فتوح البلدان".
ويُعدُّ تاريخ الطبري من أهم المصادر التاريخية الإسلامية في أخبار الفتوحات الإسلامية في جبهة العراق؛ وذلك أنَّ مرويات الأخباريِّين في الفتوح التي تُعدُّ مصادرَ أصليةً في أخبار الفتوحات الإسلامية قد فُقِد كثير منها، فلم تصل إلينا.
ومِن هنا صار للنصوص التاريخية الواردة في تاريخ الطبري عن معركة القادسية، وفتْح المدائن قيمةٌ علميَّة تاريخيَّة، وذلك للأسباب التالية:
1- كون الطبري إمامًا من أئمَّة المسلمين، وعالِمًا من علمائهم، عاش في زمن متقدِّم من تاريخ الإسلام "القرن الثالث الهجري".
2- كون تاريخ الطبري الموسوم بـ"تاريخ الرسل والملوك"، أو "تاريخ الأمم والملوك" من أقدم المدوَّنات التاريخية لتاريخ الإسلام وأوسعِها، وأكثرها شمولاً، ممَّا جعله أوسعَ المصادر التاريخية لعصر الخلافة الراشدة[4]، وخاصة في جانب الحياة السياسية، والنشاط الدعوي والعسكري لحركة الفتح الإسلامي.
3- كون الطبري اطَّلع على مصادرَ أصليةٍ في الفتوحات الإسلامية، اتَّسمت بغزارة مادتها العلمية عن فتوحات العراق بصورة عامَّة، وعن معركة القادسية، وفتح المدائن بصورة خاصَّة، وقد فُقِد كثيرٌ من أصول تلك المصادر، فحَفِظ الطبريُّ في تاريخه كثيرًا من مادتها العلمية، لا سيَّما كتاب "الفتوح" لسيف بن عمر، الذي يُعدُّ من المصادر الأصلية التي اعتمد عليها الطبري في أخبار الفتوحات الإسلامية في جبهة العراق.
4- أنَّ تاريخ الطبري يُعدُّ من المصادر التاريخيَّة الإسلاميَّة الرئيسة لأخبار الفتوحات الإسلامية في جبهة العراق، فلا يستطيع باحثٌ أن يُقدِّم بحثًا علميًّا موثقًا عن معركة القادسية، وفتح المدائن دون الرجوع إليه، والاقتباس منه.
5- أنَّ الطبري صدَّر مادته العلمية الواردة في تاريخه عن أخبار القادسية، وفتح المدائن، وغيرها من الحوادث والوقائع بالأسانيد غالبًا، وهذه ميزةٌ ازدانَ بها تاريخُه، قلَّما تجد كتابًا في تاريخ الإسلام على مِثْل شمول تاريخه وسَعتِه اهتمَّ بالأسانيد[5]، لكن مادته التاريخية بصورة عامة، وما يتعلَّق بعصر النُّبوَّة والخِلافة الراشدة على وجه الخصوص تحتاج دراستُها إلى موازينَ نقديةٍ واضحة.
6- أنَّ مَن جاء بعد الطبري من مؤرِّخي المسلمين اعتمدوا على تاريخه، إذ اعتبروه مصدرًا أصليًّا من مصادر تاريخ الإسلام، فنقلوا منه نصوصًا كثيرة، وإنَّ نظرة متأنية في تاريخ ابن الجوزي "المنتظم"، و"دلائل النبوة" لأبي نعيم الأصبهاني، و"الكامل" لابن الأثير، و"تاريخ الإسلام" للذهبي، و"البداية والنهاية" لابن كثير، تؤكِّد ذلك.
تُعدُّ مرويات سيف بن عمر أحدَ المصادر الأصلية التي اعتمدَ عليها الطبري في تاريخه عندما دوَّن أخبارَ الفتوحات الإسلامية في العصر الراشدي، فقد بلغتْ مرويات سيف بن عمر التي وردتْ في تاريخ الطبري مائتين وستًّا وستِّين رواية[6]، وقد ذُكِر اسم سيف بن عمر في أكثر من 300 موضع من تاريخ الطبري، وورد اسمه لأوَّل مرَّة في حوادث سنة عشْرٍ للهجرة، وورد اسمُه لآخِرِ مرة في حوادث سنة ستٍّ وثلاثين للهجرة، ولم يذكر الطبري روايةً له بعد ذلك[7].
وسيف بن عمر الذي ورد ذِكْره كثيرًا في تاريخ الطبري هو: سيف بن عمر الضَّبِّي الأسدي، ويقال التميمي، مصنِّف الفتوح والرِّدَّة[8]، وقد عُرف سيف باطلاعه الواسع على تاريخ الإسلام، خصوصًا ما يرتبط بالعصر الراشدي كالرِّدَّة والفتوح، والفِتنة التي وقعتْ في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه.
ويُعدُّ كتاب سيف "الفتوح" مصدرًا مهمًّا لأخبار الفتوحات الإسلامية في جبهة العراق، لا سيَّما معركة القادسية، وفتْح المدائن، ومعركة جلولاء.
وإذا كان رجالُ الحديث وضعوا شروطًا مشدَّدة في قَبول الحديث، فإنَّ ذلك يرجع إلى أهمية الحديث النبوي، وتَعلُّق الأحكام الشرعية به، فلا بدَّ من التشدُّد في نَقْده قبل قَبوله، والإسناد هو المحور الأساس الذي يدور حولَه النقد؛ لذا فإنَّ المحدِّثين لم يقبلوا روايةَ سيف بن عمر وأمثاله في الحديث، فلم يحظَ سيف بتوثيق أحد من المحدِّثين[9]، بل رمَوْه بالضعف[10]؛ لكنَّ عددًا من رجال الحديث الذين لم يَحظَ سيف بتوثيقهم فلم يقبلوا روايته في الحديث، قَبِلوا روايتَه في الأخبار، فأوْرَدُوا عددًا من مروياته في الأخبار في كتبهم، ونعتوه بنعوت جيِّدة، فقد وصَفَه الذهبي بقوله: "كان أخباريًّا عارفًا"[11]، وقد صدر كتابه "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام" وهو يتحدَّث عن المصادر التي أَخَذ منها مادة كتابه العلمية بقوله: "ولكن أذكر المشهورين ومَن يشبههم، وأترُك المجهولين ومَن يشبههم،... وقد طالعتُ على هذا التأليف من الكتب مصنفاتٍ كثيرة"، ثم عدَّد مجموعة من المصنَّفات.... إلى أن قال: "والفتوح لسيف بن عمر"[12]، وقد أورد عددًا من روايات سيف في أخبار الرِّدَّة والفتوح والفِتنة، ولم ينقدْها باعتبار أنَّ سيفًا ضعيفٌ في الحديث، بل أثبتها في كتابه[13].
أما ابن حجر، فقد نَعَت سيف بن عمر بقوله: "ضعيف في الحديث، عُمدة في التاريخ"، وقال: "أفحشَ ابنُ حبَّان القولَ فيه حين اتهمه بالزندقة، ورواية الموضوعات عن الأثبات"[14]، وقد أورد ابن حجر في "الإصابة" وغيرها من كتبه عددًا من مرويَّات سيف، بعضها نقدَها بقوله: "لكن سيف بن عمر ضعيف"، وبعضها - وهي كثيرة - سَكَت عنها ولم ينقدْها، بل قَبِلها، ومن ذلك: قصة "يا سارية الجبل"، وخبر وفادة "زريق بن عبدالله الفقيمي" على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودعاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - له ولِعَقبه، وخبر وفادة "زهير بن حوية" وإسلامه، وشهوده القادسية، وقصَّة أبي محجن الثقفي في القادسية، وحديث سيف عن أمانة طُليحة الأسدي، وعمرو بن معد يكرب الزيدي، وقيس بن مكشوح المرادي، وشجاعة القَعْقاع بن عمرو التميمي، وأخيه عاصم وبلائهما في القادسية، إلى غير ذلك من الأخبار التي أخَذَها ابنُ حجر من كتاب سيف بن عمر "الفتوح"، ولم يُعقِّب عليها بنَقْد، بل سَكَت عنها مما يدلُّ على قَبولها[15].
وقدِ احتفظ سيفُ بن عُمر بتقدير المؤرِّخين لقدرته على رَسْم صور الأحداث ببراعة واتساق[16].
وقد أخذ سيف بن عمر مادتَه العِلميَّة من مشاهير الأخباريين والنسَّابين، مثل: هشام بن عُروة بن الزبير، وهو مِن محدِّثي المدينة، ومحمَّد بن إسحاق صاحِب السِّيرة، ومحمَّد بن السائِب الكلبي، وطلحة بن الأعلم وأمثالهم[17].
كان لمرويات سيف بن عمر التي أوردها الطبريُّ في تاريخه عند ذكْرِه أخبار القادسية، وفتح المدائن، ومعركة جلولاء التي بلغتْ مائتين وإحدى وعشرين رواية ثقلها وقيمتها العلمية والمصدرية.
أما ما ذَكَره بروكلمان من أنَّ سيف بن عمر: "صَرَف هَمَّه في تاريخه للفتوح إلى تمجيد قبيلته تميم، وأنه كان مولعًا بالخَوض في المحسنات والتزايق الخيالية، وأنَّ الطبري بالاعتماد عليه من دون سواه تقريبًا، أضلَّ المؤرِّخين الذين جاؤوا من بعده واعتمدوه في تأليفهم"[18]، فهو رأي ينقصه التوثيق، ويحتاج إلى دراسة وبحْث، فقد أفْحَش بروكلمان القولَ في سيف دون مَن سواه من الأخباريين الذين هم أضعفُ منه لدى رِجال الحديث[19]، فقال عن أبي مِخنف لوط بن يحيى: "أخْرَج الأخبار في ترسُّل رائع ينتظم أكثرَ من ثلاثين مقالة مستقلَّة، تتألَّف كل منها في الأعمِّ الأغلب من مشاهد مفردة ومحاورات... ثم قال: وعلى الرغم من أنَّ أبا مخنف، بما هو كوفي، كان يَميل إلى عليٍّ، فإنَّ أخباره لم تظهر هذا التشيع"[20].
إنَّ من يقرأ مرويات سيف بن عمر التي أوْرَدها الطبريُّ عن معركة القادسية، وفتْح المدائن لا يلحظ أنها مجَّدت قبيلةَ تميم دون من سواها من القبائل العربية التي شاركتْ في فتوح العراق، فقد تضمَّنت مرويات سيف عن القادسية وفتح المدائن أخبارًا قليلةً عن شجاعة بعض رجالات تميم، كالقَعْقاع بن عمرو، وأخيه عاصم، وغيرهما، بينما تضمَّنت أخبارًا عديدةً عن شجاعة رجال من عشائر عربية أخرى، مثل شجاعة سعْد بن أبي وقَّاص، وابن أخيه هاشم بن عُتبة، وقيس المرادي، وابن الرفيل الأسدي، وأبي مِحجن الثقفي، وغيرهم كثير[21].
وقد اتسمت مرويات سيف في الفتوح بأنها تناولتِ الفتوحَ في العصر الراشدي تناولاً شاملاً، وبأنها كاملةُ الأسانيد[22] في الغالب، وأنها تورد الخبرَ بطُرق متعدِّدة[23]، مما يقوِّي بعضها بعضًا، وأنها أخذتْ بعضَ أخبار القادسية وفتح المدائن من شهود عِيان شاركوا فيهما، مثل: أبو عثمان النهدي، وأبو مالك حبيب بن صهبان، وقيْس بن أبي حازم، والقعقاع بن عمرو، وعصمة بن الحارث الضبِّي، وعبيد بن جحش السلمي، والرفيل، وكرب بن أبي كرب العُكلي[24].
وقد تُوفِّي سيف بن عمر في خلافة هارون الرشيد سنة 180هـ.
وعلى الرغم من أنَّ النصوص التاريخية الواردة في تاريخ الطبري عن أخبار معركة القادسية وفتح المدائن ومعركة جلولاء تُعدُّ مصدرًا أصليًّا للبحث، إلاَّ أنَّ دراسة الموضوع لم تقتصرْ عليها، بل استفادتْ من نصوص وردتْ في عدد من كُتب السُّنة، وعِلم الرجال، وتراجم الصحابة، وكُتب البلدان، والمعاجم اللُّغوية، كما استفادتْ من نصوص تاريخيَّة وردتْ في عدد من المصادر التاريخية الأخرى، مثل: "تاريخ ابن خيَّاط"، و"فتوح البلدان" للبلاذري، و"دلائل النبوَّة" لأبي نعيم الأصبهاني، و"المنتظم" لابن الجوزي، وغيرها ممَّا سوف يطَّلع عليها القارئ.
هذا، وقد تناول البحث دراسة الفقرات الآتية:
مقدمة خُصِّصت لدراسة مصادر البحث.
توطئة خُصِّصت لدراسة مقدِّمات الفتح الإسلامي للعراق.
أسباب القادسية.
إعداد الجيش الإسلامي.
وصول الجيش الإسلامي إلى العراق.
المفاوضات بين المسلمين والفرس وأهم نتائجها.
أحداث المعركة وأيَّامها.
أهم نتائج المعركة.
فتح المدائن.
وقفات مع فتح المسلمين للمدائن.
معركة جلولاء ونهاية الصراع العسكري بين المسلمين والفرس في العراق.
الخاتمة، وقد رصد فيها بعض نتائج البحث.
قائمة بأهم مصادر البحث.
توطئه:
كان التخطيط لفتْح العراق ودعوة أهله إلى الإسلام أولَ نشاط عسكريٍّ قامتْ به دولة الخلافة الراشدة بعدَ القضاء على حركة الرِّدَّة في جزيرة العرب.
فقد أمر أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - خالد بن الوليد أن يتوجَّه إلى جنوب العراق ليتألَّف أهلَ فارس ومَن كان في ملكهم من الأمم إلى الإسلام، ويدعوهم إلى الله - عزَّ وجلَّ[25]، فتوجَّه خالد بن الوليد بالجيش الإسلامي إلى جنوب العراق، فلمَّا وصل إلى منطقة - الحفير - تصدَّى له - (هرمز) - القائد الفارسي في المنطقة، فلم يُصغِ لدعوة الإسلام، ويحقن الدماء، ويقر السلام في المنطقة، بل أعدَّ جيشًا لقِتال المسلمين، فدارتْ معركة بين المسلمين والفُرس قُربَ (كاظمة) - تعرف (بكاظمة وبذات السلاسل)، انتصر فيها المسلمون، وقُتل (هرمز) [26]، ثم توالت هزائم الفرس في (المذار)، و (الولحة)، وفي (أليس) الْتقى خالد بنصارى العرب فانتصر عليهم، فأصبح المسلمون على مشارف (الحيرة)، فانتاب حاكمَها الخوفُ من قدوم المسلمين إليه، فاحتاط لأمره، وتهيَّأ لحرْب المسلمين إلا أنَّ خططه العسكرية أخفقت في صد المسلمين فلم تُغنِ عنه شيئًا، فهرب وترَك مسألة الدِّفاع عن (الحيرة) إلى أعيانها، فعَجَزوا عن دفْع المسلمين، وانتهى أمر (الحيرة) بفتحها، وخضوعها لسيادة الدولة الإسلامية، وقد أعْطَى خالدٌ أهلَها الأمان، وأقرَّهم على دِينهم، وقد اقتفى دهاقين القرى المجاورة (للحيرة) بأعيان (الحيرة)، فأقبلوا على خالد بالحيرة، فصالحوه ببذْلِ الجِزية، والخضوع لسيادة الدولة الإسلامية، فأعطاهم خالد الأمانَ، وأقرَّهم على ما بأيديهم[27].
وقد نشط خالد في دعوة أهْل المنطقة إلى الإسلام، فأسلم عددٌ من - دهاقين - المنطقة، كما نجح في إقرار الأمْن والسلام في المنطقة التي خضعتْ لسلطان المسلمين، واتخذ الحيرة قاعدةً للجيش الإسلامي في جبهة العراق، ومقرًّا للإدارة المدنية، ولم يتعرَّض في لقاءاته العسكرية مع الفُرس وحلفائهم من نصارى العرب للفلاَّحين، بل أحسن إليهم، ورَفَق بهم، فأخذ منهم الجزية، وصاروا أهلَ ذِمَّة، وبقيت لهم أرضهم حسبَ تعليمات الخليفة أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه[28].
لَمَّا اطمأنَّ خالد بن الوليد على اسْتِتباب الأمْن، واستقرار الأوضاع في الحيرة، توجَّه إلى الأنبار وعين التَّمْر، وقد نَجَح في مهمَّته، حيث فتح المنطقة وأخْضع كثيرًا من الأراضي الواقعة على شاطئ الفُرات لسلطان المسلمين.
هذا، وقد آزر خالدَ بن الوليد عِياضُ بن غنم الغنوي، الذي عَهِد إليه أبو بكر القضاء على التمرُّد والعِصيان في دومة الجندل، فتمكَّنَا من فتح الدومة، والقضاء على التمرُّد والعِصيان فيها، وإخضاعها لسيادة الدولة الإسلامية، وبذلك أصبحتِ الطرق البرية التي تربط جزيرة العرب بالعراق والشام تحتَ الإدارة الإسلامية.
انتهز نصارى العرب القاطنون على شاطئ الفُرات غيابَ خالد في دومة الجندل، فأعْلنوا تمرُّدَهم على الإدارة الإسلامية، واتخذوا من "حصيد" و"الخنافس" قاعدةً لهم، غير أنَّ خالدًا لما رجع إلى الحيرة قضى على الاضطرابات في المنطقة[29]، ثم انطلق بالجيش إلى "الفراض"، حيث اجتمع فيها الفرس والروم ونصارى العرب، وتحزَّبوا ضد المسلمين، فقاتلهم المسلمون قتالاً شديدًا بصبر وثبات، ونية صالحة، فنَصَر الله عبادَه، وهُزِمت الأحزاب، وتفرَّق جمعهم، وكان ذلك في منتصف ذي القعدة سنة 12هـ.
ظلَّ خالد بن الوليد في العراق حتى ربيع سنة 13هـ[30]، حيث صدرتْ إليه التعليمات من الخليفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بالتوجُّه بنِصْف الجيش الإسلامي في العِراق إلى الشام لمساعدة المسلمين هناك[31].
تولَّى قيادة الجيش الإسلامي في العراق المُثنَّى بن حارثة الشيباني، وقد اتَّسم بالحَذَر والحيطة، والفطنة ومتابعة أخبارِ عدوِّه، فأخَذ يراقب الأوضاع العامَّة في المدائن وفي الأراضي الخاضعة لسلطان المسلمين، فأذكى العيون، وأقام المسالح[32]، غير أنَّه أدرك أنَّ قدرات الجيش الإسلامي في العراق غيرُ كافية للتصدِّي للفُرْس، الذين توحَّدت جبهتُهم الداخلية بتولِّي يزدجرد القيادة السياسية، فطلب المثنَّى من الخليفة أبي بكر الصديق أن يمدَّه بقوة عسكرية، فلمَّا تأخَّر المدَد، قرر أن يرحل إلى المدينة ليطَّلع الخليفة على أوضاع المنطقة، فلمَّا وصل إلى المدينة، وجد الخليفة أبا بكر مريضًا قد عهِد بأمر المسلمين إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلاَّ أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - لم يشغلْه مرضُه رغم شدته، فأصْغى إلى المثنَّى بن حارثة، فلما وقف على أوضاع المنطقة، وعلى أوضاع الجيش الإسلامي في العراق، أرسل إلى عمر، فلمَّا حَضَر عنده قال له: اسمعْ يا عمر ما أقول لك، ثم اعملْ به، إني لأرجو أن أموتَ مِن يومي هذا، فإن أنا متُّ فلا تمسين حتى تندبَ الناس مع المثنَّى، وإن تأخرتُ إلى الليل، فلا تصبحنَّ حتى تندبَ الناس مع المثنَّى، ولا تشغلنَّكم مصيبةٌ وإن عظمت عن أمْر دِينكم ووصية ربِّكم[33].
فلمَّا توفي أبو بكر الصِّديق - رضي الله عنه - مساء الاثنين الحادي والعشرين من شهر جُمادَى الآخرة سنة 13هـ بايع الناسُ عمر - رضي الله عنه - البيعةَ العامة في المسجد صبيحةَ يوم الثلاثاء، فكان أوَّلُ عمل استفتح به عمر - رضي الله عنه - خلافتَه نَدْبَ الناس، وحثهم على الخروج للجهاد في سبيل الله في جبهة العراق، فكان أوَّلُ مَن خرج إلى المكان الذي حدَّده عمر لاجتماع الناس أبا عبيد بن مسعود الثقفي، فأمَّرَه عمرُ على الجيش؛ لسبقِه الناس، وجرْأته على قِتال الفُرْس[34]، وأمَر عمرُ المثنَّى بن حارثة أن يعود إلى العراق؛ ليكونَ طليعةً للجيش الإسلامي هناك.
قدم المثنَّى بن حارثة إلى "الحيرة" في وقتٍ اضطربتْ فيه الأوضاع العامَّة في المناطق الخاضعة لسلطان المسلمين؛ نتيجةً لتدابير رستم وخططه العسكرية، فقدِ اتصل رستم بدهاقين المنطقة، وشجَّعهم على نقْض عهود المسلمين والثورة ضدَّهم، فثار أهلُ الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله[35].
فطِن المثنَّى بن حارثة لتدابير رستم وخططه العسكرية، فأعدَّ للأمر عُدَّته، وخرج بالجند من "الحيرة"، وعسكر جنوب العراق؛ لئلاَّ يُؤتى من خلفه بشيء يكرهه[36]، ظلَّ المثنَّى معسكرًا جنوب العراق ينتظر وصولَ أبي عبيد الثقفي بالمدَد من المدينة، فلمَّا وصل أبو عبيد بن مسعود الثقفي انضمَّ إليه المثنى بن الحارثة بالجُند، فالْتقَى المسلمون بالفُرس في "النمارق" فهزموهم، ثم توالتْ هزائم الفُرْس في "كسكر" وغيرها، مما جعل رستم يُعدُّ جيشًا قويًّا لمنع تقدُّم المسلمين في المنطقة، وقد زوَّد رستم الجيش الفارسي بسلاح الفِيَلة، وهو سلاح فتَّاك؛ ليخيفَ جُندَ المسلمين وخيلهم وإبلهم، لعلَّه يُحقِّق تفوقًا عسكريًّا عليهم، وأسند قيادةَ الجيش إلى - بهمن جاذويه - فنزل الجيش الفارسي "قس الناطف"، فأصبح نهر الفرات بينه وبين المسلمين، فطلَب من أبي عبيد الثقفي قائدِ الجيش الإسلامي أن يَعْبُرَ إليه النهر، أو يأذن له في العبور، فاستشار أبو عبيد عددًا من القادة المسلمين، فأشاروا على أبي عبيد بعدم عبور النهر؛ لئلاَّ يُحصرَ المسلمون بين النهر والعدو، لكن أبا عبيد فضَّل عبور النهر؛ لئلاَّ يكون الفُرْس أجرأَ على الموت من المسلمين[37]، فطلب أبو عبيد من بعض دهاقين المنطقة إقامةَ جسر على نهر الفرات؛ ليعبرَ عليه جندُ المسلمين إلى الفُرْس المعسكرين في "قس الناطف"[38]، وهناك دارتْ معركة بين المسلمين والفُرس في مكان ضَيِّق المطرد، كثير المستنقعات، أبْلَى المسلمون فيه بلاءً حسنًا، غير أنَّ خيلهم نفرتْ من الفِيلة فتَرَكها المسلمون وترجَّلوا، واتجهوا إلى الفِيلة؛ ليضربوها بسيوفهم، ولم يكن للمسلمين معرفةٌ بمقاتل الفيلة، فلمَّا ضَرَب أبو عبيد الفيلَ بسيفه خبَطه الفيل بيده، فأَرْداه شهيدًا[39]، فاضطرب جيش المسلمين، ولَمَّا أراد جند المسلمين العودةَ إلى معسكرهم خلفَ النهر، اجتهد أحدُ الجند فقطع الجسر؛ ليمنعَ هزيمة المسلمين وتقهقرهم[40]، فسَقَط عددٌ من جند المسلمين في النهر، غير أنَّ المثنَّى بن حارثة وعددًا من قادة الجيش الإسلامي تمكَّنوا من إصلاح الجِسر، وحماية ظهر الجند، فعَبَر الجند نهرَ الفُرات إلى معسكرهم[41].
كانت هزيمة المسلمين في معركة الجِسر أولَ هزيمة تلحق الجيشَ الإسلامي في جبهة العراق، فكانتْ قاسيةً على نفوسهم، لدرجة أنَّ بعض جند المسلمين وصَل إلى المدينة المنورة، والبعض منهم بقي بالبوادي يغلبهم الحياء[42].
لَمَّا علم عمر - رضي الله عنه - بهزيمة المسلمين في الجِسْر، ومَقْتل أبي عبيد وغيره من جند المسلمين، قال: يرحم الله أبا عبيد، ثم أَخَذ يندبُ الناس ويحثُّهم على الخروج للجهاد في سبيل الله في جبهة العراق، فلمَّا رأى من الناس تثاقلاً في الخروج إلى العراق لقتال الفُرْس، أَذِن لِمَن حَسُن إسلامه وظهرتْ توبتُه وندمُه من أهل الرِّدَّة بالخدمة العسكرية، وأمدَّ بهم جبهة العراق[43]، وكان المثنى بن حارثة قد نَعَت أهلَ الرِّدَّة الذين حَسُن إسلامهم بقوله: "بأنهم مِن أرغب الناس وأنشطهم في قِتال فارس وحربها"[44].
هذا، وقد عالج المثنَّى بن حارثة الآثارَ المادية والنفسية لمعركة الجِسر، ونجح في قيادة الجيش الإسلامي، والْتقى مع الفُرس في "البويب"، حيث دارتْ معركة بين المسلمين والفُرْس، كان الجيش الفارسي فيها مزهوًّا بنشوة النصر في معركة الجسر، فأقبل نحوَ المسلمين في صفوف ثلاثة أمامَ كل صفٍّ فيل، فتلقَّفهم المسلمون بثبات وصَبْر، وصِدْق نية، فحطَّموا كبرياء الفرس وغرورهم، وانتصروا عليهم وقتلوا قائدَهم، وهزموا جنده، فولَّوْا هاربين نحوَ الجسر الذي أقاموه خلالَ عبورهم نهرَ الفرات، فسبقهم إليه المثنى بن حارثة، وقطعه وبذلك سدَّد المسلمون للفُرْس ضربةً قوية، وغنموا غنائمَ كثيرة[45].
كانت معركة "البويب" التي وقعتْ في شهر رمضان سنة 13هـ خاتمةَ مُقدِّمات الفتح الإسلامي للعراق، حيث بدأ الفتحُ الحقيقي، وسيادة الدولة الإسلامية على العراق بعدَ نصْر المسلمين على الفُرْس في معركة "القادسية".
من أسباب معركة القادسية:
كان الصِّدام العسكري بين المسلمين والفُرس قد قطع شوطًا في جبهة العراق في خلافة أبي بكر وأوَّل خلافة عمر - رضي الله عنهما - لكنَّه لم يبلغْ مرحلةَ اللِّقاء العسكري الحاسم بين الطرفَين، فانتصار المسلمين في معركة "البويب" لم يُنهِ الوجودَ السياسي والعسكري للفُرْس في العراق، ويمكِّن الدعوة الإسلامية أن تشقَّ طريقَها إلى الناس في العراق بأمْن وسلام.
فكان لا بدَّ مِن لقاء عسكري حاسِم يُنهي الوجود السياسي والعسكري للفُرْس في العراق، ويمكِّن الدعوة الإسلامية أن تشقَّ طريقها إلى الناس في العِراق، ويجعل العراقَ دار إسلام، وأمْن وسلام، فكانتْ معركة "القادسية" ذلك اللِّقاء العسكري الحاسم.
هذا، وقد تعدَّدتْ أسباب معركة "القادسية"، فمنها:
1- توحيد الجبهة الداخلية في بلاد الفرس:
كانتِ الجبهة الداخلية لدولة الفرس عشيةَ قدوم المسلمين إلى بلاد العراق مضطربة، وكان التنافسُ على عَرْش المدائن شديدًا، غير أنَّ الفرس كانوا مُجْمعين على حرْب المسلمين، ومنع وصول الدعوة الإسلامية إلى بلاد العراق[46]، فلما مَخَر المسلمون السواد، وفتحوا بعضَ مدن العراق، كالحيرة وعين التمر، والأنبار، أدْركتِ القيادةُ السياسية والعسكرية لدولة الفرس أنَّه لا يمكن مواجهةُ المسلمين والتصدِّي للدعوة الإسلامية بجبهة داخلية مضطربة، مما جعلهم يَحْزمون أمرَهم، ويعقدون عزمَهم على تتويج "يزدجرد ابن شهريار" مَلِكًا للدولة الساسانية، فاجتمع إليه الفرس واستوثقوا، وتبارَى الرؤساء في طاعته ومعونته، وبذلك توحَّدتِ الجبهة الداخلية لدولة الفرس، وتفرَّغت القيادة السياسية والعسكرية لحرْب المسلمين، وطرْدهم من العراق، فكان هذا مما هيَّج أمر "القادسية"[47].
2- إعلان حالة الطوارئ في بلاد الفُرْس للتصدِّي للدعوة الإسلامية:
أعلن يزدجرد حالةَ الطوارئ والاستنفار العام في بلاده، وشَرَع في إعداد جيش قويٍّ زوَّده بعتاد حربي جيِّد، وضمَّ إليه خِيرةَ رجال الفرس العسكريِّين، وأسند قيادته إلى "رستم"؛ لرتبته العسكرية، ولعبقريته في الحرب، ومهارته في القتال؛ وذلك لحرْب المسلمين وطرْدهم من العراق، والتصدِّي للدعوة الإسلامية.
3- اضطراب الأوضاع الأمنية في العراق:
شرَع "رستم" في إعداد خطَّة عسكرية لضرْب الوجود الإسلامي في العراق، تقوم على الاتصال بالدهاقين وأهل السواد، وتشجيعهم على التمرُّد والعِصيان، فاضطربتِ الأوضاع العامَّة في الحيرة، وغيرها من المناطق التي فتَحَها خالدٌ والمثنَّى؛ وذلك استجابةً لدعوة "رستم"، وتنفيذًا لخطته العسكرية، فنقض أهلُ الذِّمَّة عهودهم وذِممهم، وآذوا المسلمين هناك[48].
4- إعلان الاستنفار العام في جزيرة العرب:
لَمَّا علم أميرُ المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - باجتماع كلمة الفرس على يزدجرد وتتويجه ملكًا عليهم، وعلم أيضًا بعزْم قيادتي الفُرْس السياسية والعسكرية على حرْب المسلمين، وطرْدهم من العراق، والتصدِّي للدعوة الإسلامية، أدْرك خطورةَ الموقف وأبعاده، وما سوف يُفرزه من آثار سلبية على سَيْر الدعوة الإسلامية في العراق، فقرَّر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مناجزةَ الفُرْس، ومنازلتهم في لقاء عسكري حاسِم، يُنهي الوجود السياسي والعسكري للفرس في العراق، ويُمكِّن الدعوة الإسلامية من الوصول إلى الناس في العراق بأمْن وسلام.
فأعلن عمر - رضي الله عنه - حالةَ الطـوارئ والاستنفار العام في جزيرة العرب، وذلك لإعداد جيش إسلاميٍّ كبير، فكتب إلى أمراء البلدان، ورؤساء القبائل في جزيرة العرب "يأمرهم ألا يَدَعُوا أحدًا له سلاحٌ أو فَرَس، أو نجدة أو رأي، إلاَّ انتخبتموه، ثم وجهتموه إليَّ، والعَجَلَ العَجَل"[49].
5- فشل المفاوضات بين المسلمين والفرس في تحقيق الأمن والسلام في المنطقة:
بَعَث سعدُ بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - إلى ملك الفُرْس وفدًا من أهل الرأي والمناظرة والجلد، يدعونه إلى الإسلام، وإلى إقرار الأمْن والسلام في المنطقة.
وصل الوفد إلى المدائن، والْتقى بقادة الفرس، فعَرَض عليهم الإسلام ودَعاهم إليه، وقد جَرَت بين رسل المسلمين وقيادة الفُرْس مناظرة ومحاورة، أدْلى كلٌّ منهما فيها بحُججه ووجهة نظره في المسألة، وقد جنح رسلُ المسلمين في مناظرتهم لقادة الفُرْس السياسيِّين والعسكريِّين إلى الحكمة والموعظة الحسنة، متخذين من قول الله تعالى -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، ومن قوله تعالى -: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43 - 44] منهجًا في محاورة ومناظرة خصومهم، غير أنَّ قادة الفُرْس ظنُّوا أنَّ جنوح رسل المسلمين إلى اللِّين والحِكمة والموعظة الحسنة في المجادلة والمناظرة راجعٌ إلى ضَعْف دولة الخلافة الراشدة؛ وذلك بسبب استهزاء قادة الفُرس بعرب الجزيرة واحتقارهم، وبسبب جَهْلهم بالإسلام ودولته، فقد غرَّتْهم قوتُهم، فركنوا إليها، وجنحوا إلى التهديد بالقوَّة العسكرية، والتحدِّي بدفْن المسلمين في خَنْدق "القادسية" في ساعة مِن نهار، فلم يُصغوا لدعوة الإسلام والأمْن والسلام.
انتهتِ المفاوضات بيْن المسلمين وقيادة الفُرْس دون أن تحقِّق أهدافَها الإسلامية في إقرار الأمن والسلام في المنطقة، فكان فشلُ المفاوضات بين المسلمين والفُرْس في تحقيق الأمن والسلام في المنطقة مما هيَّج أمر "القادسية"، فأصبح اللِّقاء العسكري بين المسلمين والفُرْس أمرًا لا مفرَّ منه.
إعداد الجيش الإسلامي:
استجاب عربُ الجزيرة لاستنفار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأخذتْ قوافلهم تحطُّ بالمدينة، فازدحمتْ طرق المدينة وسِككُها بالجند، فخرج عمر بالناس، ونزل على ماء يقال له (صرار)، فعسكر به.
كان رأي عامَّة الجند أن يتولَّى الخليفة قيادة الجيش، فبعث عمر إلى أهل الرأي يستشيرهم في المسألة، فاجتمع إليه وجوه أصحاب الرسول "وأعلام العرب وفرسانهم، فاستشارهم في ذلك، فاجتمع مَلؤُهم على أن يقيمَ عمر في المدينة، ويُسندَ قيادةَ الجيش إلى واحد من الصحابة، ويمدَّه بالجنود، وأشاروا عليه بسعد بن أبي وقَّاص؛ لصُحبته وسَبْقه، ولجرأته وشجاعته في القتال، فأرسل إليه عمر، فلمَّا حَضَر عنده ولاَّه قيادة الجيش، وقال له: إني قد وليتُك حرْبَ العراق، فاحفظْ وصيتي، فإنك تَقْدَم على أمر شديد كِريه، لا يخلص منه إلاَّ الحق، فعوِّد نفسَك ومَن معك الخير، واعلم أنَّ عتاد الحرْب الصبرُ، فاصبرْ على ما أصابك، تجتمعْ لك خشيةُ الله، واعلم أنَّ خشية الله تجتمع في أمرين؛ طاعته، واجتناب معاصيه"[50].
وصول الجيش الإسلامي إلى العراق:
سار سعْد بن أبي وقاص بالجيش متمهلاً في سكينة وطُمأنينة، وكان إذا مرَّ بحيٍّ من أحياء العرب نَدَبهم إلى الجِهاد في سبيل الله.
كان المثنَّى بن حارثة قد انسحب من الحيرة، ونزل مع جنده بذي قار، ينتظر وصولَ سعد بن أبي وقَّاص إليه، فلمَّا وصل سعدٌ بالجيش إلى مكان يقال له "زرود" انتفض جُرْح المثنَّى بن حارثة، الذي أصابه يوم الجِسْر، فمات قبل أن يَلْتقي بسعد، وكان كلُّ واحد منهما مشتاقًا لرؤية صاحبه، واصَل سعد سيرَه، حتى بلغ مكانًا يقال له "شراف" فعَسْكر به.
قدم المُعنَّى بن حارثة الشيباني بوَصية أخيه إلى سَعْد وهو بـ"شراف"، وكان من وصية المثنَّى لسعد: ألاَّ يتوغَّل في بلاد الفُرْس، وأن يقاتلَهم على حدود أرْضهم، على أدْنى حجر من أرض العرب، وأدنى مَدَرة من أرض العجم، وقد أكَّد عمر ذلك في كتابٍ وصل إلى سعد وهو بـ"شراف".
كتب عمر - رضي الله عنه - إلى سعد وهو بـ"شراف" يأمره بنزول "القادسية"، وأن يأخذَ الطرق والمسالك على الفُرْس، وأن يجعل على أنْقاب "القادسية" مسالح لحراسة المسلمين، ومراقبة العدو، وأمَرَه أن يلزم مكانَه في "القادسية" فلا يَبرحْه، وأن يبدأهم بالشدِّ والضرب، وأن يصف له "القادسية"، ويكتب له بأخباره وأخبار عدوِّه كأنَّه ينظر إليه، وأمَره أن يكون محتاطًا حذرًا، مستعدًا للقاء عدوِّه[51].
سار سعْدٌ بالجيش من "شراف"، فنزل "العُذَيْب"، ثم سار حتى نزل "القادسية"، فعسكر على حائط "قديس"، بحيال القنطرة، وجعل الخندق وراءَه.
انضمَّ إلى سعد في "القادسية" جندُ المسلمين وقادتهم في العراق، فأصبح عددُ جيش المسلمين في القادسية قريبًا من ستة وثلاثين ألفًا، منهم ثلاثمائة من الصحابة، منهم بِضعة وسبعون من أهل بدر، وسَبْعمائة من أبناء الصحابة، وعدد مِن أعلام العرب وقادتهم وفرسانهم[52]، يُعدُّ جيش المسلمين في "القادسية" أكبرَ جيش عبَّأه المسلمون لفتْح بلاد العراق[53].
ظلَّ سعدٌ مقيمًا بالقادسية شهرًا دون أن يرى أحدًا من الفُرْس، فأرسل عددًا من السرايا تُغير على شاطئ الفرات ما بين "كسكر"، و"الأنبار"، وتعود بالغنائم، أراد سعد بن أبي وقَّاص أن يعلم خبرَ عدوِّه، فأرسل عيونًا إلى "الحيرة"؛ ليأتوه بخبر الفُرْس، فذهبوا إلى هنالك ورجعوا إليه، وأخبروه بأنَّ مَلِك الفرس "يزدجرد بن شهريار" قد أعدَّ جيشًا كبيرًا لمنازلة المسلمين وطَرْدِهم من العراق، وقد هيَّأ لهذا الجيش كلَّ ما تملكه دولةُ فارس من عَدد وعُدَّة وعتاد حربي، وضمَّ إليه خِيرةَ رجال الفرس وقادتهم العسكريين، أمثال: الجالينوس والهرمزان، ومهران الرازي والبيرزان، وذو الحاجب، وغيرهم، وأسند قيادةَ هذا الجيش إلى رستم بن الفرَّخزاد الأرمني[54].
كتب سعدٌ إلى أمير المؤمنين عُمرَ يصف له "القادسية" وما جاورها من البلدان، ويخبره أنَّ جميع مَن صالح المسلمين قبله من أهل السواد ألْبٌ لأهل فارس قد خفُّوا لهم، واستعدوا لقتالنا، ويخبره أيضًا أنَّ الفُرْس قد أعدُّوا جيشًا بقيادة رستم وأضرابه، وعسكروا في "ساباط" يحاولون إنغاضنا وإقحامنا، ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم، وأمرُ الله بعدُ ماضٍ، وقضاؤه مُسلِم إلى ما قُدِّر لنا وعلينا، فنسأل الله خيرَ القضاء، وخيرَ القدر في عافية[55].
تتابعتْ تعليمات عمر - رضي الله عنه - لسعد بن أبي وقاص كأنه يُدير المعركة، ويتحكَّم في حركة الجيش وسعد يُنفِّذ ما يُؤمر به[56]، فقد كتب عمر لسعد يقول: "لا يكربنَّك ما يأتيك عنهم، ولا يأتونك به، فقد أُلْقي في رُوعي أنكم إذا لقيتم العدوَّ هزمتموهم، فاطرحوا الشك، وآثروا اليقين عليه، واستعِنْ بالله وتوكَّل عليه"، وأمره الوفاء بالعهد، وحذَّره من الغَدْر وعاقبته، وأمره أن يبعثَ إلى ملك الفُرس وفدًا من أهل الرأي والمناظرة والجلد، يدعونه إلى الإسلام[57].
المفاوضات بين المسلمين والفرس وأهم نتائجها:
بعث سعْد بن أبي وقاص إلى ملك الفرس يزدجرد وفدًا من أهل الرأي والقوَّة والشَّرَف يدعونه إلى الإسلام، سار الوفد الإسلامي من القادسية، فاجتاز مدينة ساباط جنوب غربي المدائن.
وصل الوفد إلى المدائن فالْتقى بقادة الفُرْس، وتحدَّث إليهم، فعَرَض عليهم الإسلام ودعاهم إليه، تحدَّث النعمان بن مقَّرِّن المُزني أحد رجال الوفْد إلى يزدجرد، ودعاه إلى الإسلام بلين ولطف، وبيَّن له فضلَ الإسلام ورحمته بالناس، وعدلـه وإنصافه، فقال: فنحن ندعوكم إلى دِيننا، وهو دين حسَّـن الحَسَن، وقبَّح القُبْح كلَّه، فإن أجبتم إليه خلَّفْنا فيكم كتابَ الله، على أن تَحْكُموا بأحكامه، ونَرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فالمناجزة[58].
اعتقد يزدجرد أنَّ حُسن أدب الوفد الإسلامي، وملاطفته في المناظرة دليلٌ على ضعْف المسلمين، فتطاول عليهم وأَخَذ يُذكِّرهم بحياتهم قبلَ الإسلام، وينعتهم بأنهم مِن أشْقَى الأمم، وأقلها عددًا، وأضعفها شأنًا، وأسوئها حالاً، فتصدَّى له المغيرة بن زرارة، فقال: يا هذا، إنك وصفْتَنا صِفةً لم تكن بها عالِمًا، فتحدَّث المغيرة عن حال العَرَب قبل دخولهم في الإسلام وما كانوا عليه، من ضلال وفُرْقة وذِلَّة، إلا أنَّ الله قد أبدلَ حالهم بالإسلام، فأصبحوا من أفضلِ الأمم عقيدةً، وأحسن الناس خُلقًا، تألَّفت قلوبهم، فاجتمعت كلمتُهم، واستقامتْ حالهم، وعزَّ جانبهم، ثم قال: إنَّ الله ورسوله أمَرضنا أن ندعوَ مَن يلوننا من الأمم إلى الإسلام، فاخترْ إن شئت أن تُسلِمَ فتنجي نفسك، أو تُعطيَ الجزية عن يدٍ وأنت صاغِر، أو السيف، فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟! قال: ما استقبلتُ إلاَّ مَن كلَّمني، ولو كلَّمني غيرُك ما استقبلتُك به، فغضب يزدجرد، وأخذتْه العِزَّة بالإثم، وكان سيِّئ الأدب، ضيقًا لجوجًا، لا يأخذ برأي ولا مشورة[59]، فأمر الوفد بالانصراف، وقال: لولا أنكم رسلٌ لقتلتُكم، ثم أمر بإحضار كيس من تُراب، فقال لرجاله: احملوه على أشْرف هؤلاء، فتسابق الوفدُ إلى حَمْله، وتفاءلوا به[60].
كان رستم قد عسكر بالجيش في ساباط، وأقام البريد بينه وبين المدائن؛ ليكونَ على اتصال دائم بالقيادة السياسية، وبات ينتظر نتيجةَ المفاوضات بين المسلمين وقيادته السياسية، وكان يتمنَّى ألاَّ يقع قتال بينه وبين المسلمين، غير أنَّ الرِّياح جرتْ بما لا تشتهي السُّفن، فقرَّر الذَّهاب إلى المدائن لمقابلة يزدجرد، فلم يجد لديه رأيًا سديدًا في المسألة، فرجع إلى ساباط كئيبًا غضبان، وكان منجِّمًا متشائمًا من قتال المسلمين، فأراد إطالةَ المكث في ساباط، لكن يزدجرد أزعجه بكثرة الرسائل والرسل، التي أخذتْ تحثُّه على المسير إلى القادسية لقتال المسلمين ومناجزتهم، لم يجدْ رستم بُدًّا من السَّيْر إلى القادسية، فسار بالجيش من ساباط متثاقلاً، وكان كلَّما مرَّ بمنزل رغيب خصيب نَزَل به، حتى وصل إلى النجف بعد أربعة أشهر مِن مخرجِه من المدائن، فعسكر بالجيش هناك، كان رستم يريد مطاولةَ المسلمين لعلَّهم يضجرون فيرحلوا، لكنَّ المسلمين وطَّنوا أنفسَهم على الصبر والمطاولة، فأقاموا واطمأنوا[61].
سار رستم من النجف فعسكر على نَهْر العتيق قُبالةَ جند المسلمين، فلمَّا استقرَّ في القادسية واطمأنَّ بها، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص يَطلب أن يرسل إليه وفدًا يُفاوضه ويناظره، فأرسل إليه سعدٌ عددًا من الرجال يناظرونه ويَدْعونه إلى الإسلام، ويوضِّحون له سببَ مجيء المسلمين إلى العراق، منهم: ربعي بن عامر، وغيره من دُهاة العرب، وذوي الرأي فيهم، وصل رِبعي بن عامر إلى رستم، فقال له: ما جاء بكم....؟ قال رِبعي: إنَّ الله ابتعَثَنا؛ لنُخرِجَ مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضِيق الدنيا إلى سعتها، ومِن جَوْر الأديان إلى عَدْل الإسلام، فأرسلَنا بدِينه إلى خَلْقه ندعوهم إليه، قال رستم: قد سمعتُ مقالتكم، فهل لكم أن تؤخِّروا هذا الأمر حتى ننظرَ فيه وتنظروا...؟ قال ربعي: نؤجِّلكم ثلاثةَ أيام، فانظرْ في أمرك وأمرهم، واخترْ واحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجِزية، أو المناجزة[62].
تتابعتْ رسلُ سعد بن أبي وقَّاص على رستم، وكانوا على نَسَق واحد في صِدْق المقالة، ووضوح العبارة، وبلوغ الهدف، فقد دَعَوُا القوم إلى الإسلام، وقالوا لهم: فوالله، لإسلامُكم أحبُّ إلينا من غنائمكم[63]، غير أنَّ رستم أراد مطاولةَ سعد في اللِّقاء، فأرسل إليه يطلب رسولاً آخر، فأرسل إليه سعدٌ المغيرةَ بن شُعْبة، فلمَّا وصل المغيرة تحدَّث إلى رستم مؤكِّدًا مقالة مَن سبقه مِن رسل المسلمين، فاعتقد رستم أنَّ المسألة يمكن أن تُسوَّى بالمال، فتصدَّى له المغيرةُ، وحسم المسألة بقولـه: إنَّ الله بعث إلينا نبيه "فسعِدْنا بإجابته واتباعه، وأمَرَنا بجهاد مَن خالف أمرَنا، وأخبرنا أنَّ مَن قُتِل منا على دينه فله الجنة، ومَن عاش مَلَك وظَهَر على مَن خالفه، ونحن ندعوك أن تؤمن بالله وبرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتدخل في دِيننا، فإن فعلتَ كانتْ لكم بلادكم، ولا يدخل عليكم فيها أحدٌ إلاَّ مَن أحببتم، وإن أبيتَ ذلك، فالجزية عن يَدٍ وأنت صاغِر، وإن أبيت فالسيف بيننا وبينكم، والإسلامُ أحبُّ إلينا منهما، فاستشاط رستم غضبًا، وقال: لا صُلح بيننا وبينكم"[64]، فأصبح اللِّقاءُ العسكريُّ بين المسلمين والفرس أمرًا لا مفرَّ منه.
لم تحقِّق المفاوضات بين المسلمين وقيادتي الفُرْس السياسية والعسكرية أهدافَها الإسلامية في إقرار السلام في المنطقة، وكان لسلبية المفاوض الفارسي في المفاوضات دَورٌ رئيس في فشلها، وعلى الرغم من فَشَل المفاوضات في تحقيق الأهداف الإسلامية؛ إلا أنَّ رسل المسلمين نَجحوا في تبليغ دعوة الإسلام إلى قادة الفُرْس، وفي إنذارهم وإقامة الحُجَّة عليهم بوصول الدَّعْوة إليهم.
أحداث المعركة وأهم نتائجها:
عَبَر رستم بالجيش الفارسي نهر العتيق فنزل قبالة المسلمين على شفير العتيق، فكان عسكر المسلمين والفرس بين الخندق والعتيق[65].
استعدَّ سعد بن أبي وقَّاص لمنازلة الفُرْس ومناجزتهم، فلمَّا كان يومُ الاثنين السابع والعشرين من شهر شوال لسنة خمس عشرة للهجرة[66]، صلى سعْدٌ بالناس صلاةَ الظهر، ثم أَمَر القرَّاء أن يقرؤوا سورة الجِهاد[67] اقتداءً بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا قُرئت هشَّت قلوبُ الناس، وذَرَفتْ عيونهم، ونزلت عليهم السكينة والطمأنينة، وتهيَّأت نفوسُهم لقتال عدوِّهم، ثم كبَّر سعد ثلاثَ تكبيرات؛ إيذانًا ببَدء المعركة باسم الله وفي سبيله.
كان سعد ابن أبي وقاص أجْرأَ الناس وأشجعَهم، نَزَل قصرًا غير حصين بين الصَّفَّيْن، فأشرف منه على الناس[68]، لكنَّ سعدًا لم يتمكَّن من قيادة المعركة في الميدان لجروح أصابتْه في مقعدته وفخذيه، غير أنَّه ظلَّ يخطط للمعركة ويشرف عليها، ويتابعها من تلٍّ مرتفع، وكان خالد بن عرفطة العذري يقود المعركة، وينفِّذ تعليماتِ سعد، ويبلغها للقادة العسكريين في الميدان[69].
يوم أرماث:
يُعرف اليوم الأول للمعركة بيوم أرماث، بدأ القتال فيه بعدَ الزوال، وكان قتالاً شديدًا ضاريًا، وقد استخدم الفُرْس فيه سلاح الفِيَلة، وهو سلاح فتَّاك يُخيف الإنسان، ويُفزع الخيول والإبل، التي لم تتعوَّد على رؤيته، فقد اشترك في المعركة ثلاثةٌ وثلاثون فيلاً، يتقدَّمها الفيل الأبيض وهو أقدمها، وكانت الفِيَلة تألفه، وكانتِ الفِيلة تحمل توابيت رُبطت بوضنها[70]، وفي داخلها الرِّجال معهم السِّهام والنبال، وكان عواء الفيل ومنظرُه وما يحمله من صناديق يُفزِع خيول المسلمين وإبلهم، فتَحيد وتُحجم، فلَقِي المسلمون منها أذًى كثيرًا، غير أنَّ المسلمين سدَّدوا ضرباتِهم للفيلة، فقطعوا وضنها، وكسروا توابيتها، وقتلوا أصحابها[71]، فاضطربتْ وولَّت الأدبار، واستمرَّ القتال، حتى غربتِ الشمس دون أن يتمكَّن أحدُ الفريقين من حَسْم المعركة لصالحِه، فلما ذهبت هدأة الليل تحاجز الفريقان، وتوقَّف القِتال، وذهب كلٌّ إلى معسكره.
يوم أغواث:
أصبح المسلمون على تعبئة واستعداد لاستئناف القِتال، ومنازلة الفرس في يوم أغواث، وهو اليوم الثاني للمعركة، وقد بدَأ المسلمون يومَهم بنقْل شهدائهم إلى وادي مشرق[72] ودفنهم في مقابر هُيِّئت لهم، ونقل الرثيث[73] إلى مكان هُيِّئ لعلاجِهم، فلمَّا استقلَّت الإبل بالشهداء والجَرْحى، وتوجَّهت بهم نحوَ "العذيب"، قَدِمت طليعة مدد الشام يتقدَّمها القعقاع بن عمرو، وذلك أنَّ أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أبي عُبيدة بن الجرَّاح بالشام يأمره أن يمدَّ سعدًا بأهل العراق الذين قدِموا إلى الشام مع خالد بن الوليد، أرسل أبو عبيدة الجيش مع هاشم بن عتبة بن أبي وقَّاص ابن أخي سعد بن أبي وقاص، فجعل هاشم على مقدمته القعقاع، وطوى الأرض وتعجَّل، فقَدِم بفِرقته على المسلمين بالقادسية صبيحةَ يوم أغواث[74].
لَمَّا وصل القعقاعُ بن عمرو بفرقته إلى ميدان المعركة كان القِتال قد نشب بين المسلمين والفُرْس، فقام القعقاع بمناورة عسكرية لرفْع الرُّوح المعنوية لدَى جند المسلمين، فقد قسَّم فِرقته إلى فرق صغيرة، قوامُ كلِّ فرقة مائة رجل تدخل ميدان المعركة مكبِّرة، فيكبر المسلمون بتكبيرها، تتابعتِ الفِرق في دخولها، واستمرَّتْ جلجلة التكبير، فازداد المسلمون ثباتًا وقوَّة، ووهن الفُرْس، وقد حذَا حذوَ القعقاع قادة مدد الشام جميعهم[75].
لم تظهر الفِيَلة في ميدان المعركة يومَ أغواث لانشغال الفرْس بإصلاح التوابيت ووضنها، التي أصابها ضررٌ بالِغ يوم أرماث.
في يوم أغواث بَرْقَع المسلِمون إبلَهم فنفرتْ منها خيول الفرس وفزعت، فلحقهم أذًى كثير، وعندئذٍ سدَّد المسلمون ضرباتٍ قوية لقوَّات الفرس، وقتلوا كثيرًا من أعلامهم، وكان لأبي محجن الثقفي في يوم أغواث بطولةٌ وشجاعة، فقد كان فارسًا ذا بأس ونجدة، أخرج عبدالرزاق بسند صحيح عن ابن سيرين: أنَّ أبا محجن كان لا يزال يُجلد في الخمر، فلمَّا أكثر عليهم سَجَنوه، وأوثقوه، فلمَّا كان يومُ القادسية رآهم يقتتلون، فكأنَّه رأى أنَّ المشركين قد أصابوا من المسلمين، فجعل يتمثل:
كَفَى حَزَنًا أَنْ تَرْتَدِي الْخَيْلُ بِالْقَنَا
وَأُتْرَكُ مَشْدُودًا عَلَيَّ وِثَاقِيَا
فأرْسل إلى امرأة سعد يقول لها: "إنَّ أبا محجن يقول لك: إنْ أخليتِ سبيلَه، وحملتِه على هذا الفَرَس، ودفعتِ إليه سلاحًا، ليكوننَّ أوَّلَ مَن يرجع إليك إلا أن يُقتل، فحلَّتْ عنه قيوده، وحمل على فَرَس كان في الدار، وأُعطي سلاحًا، فخرج يركض حتى لَحِق بالقوم، فقاتل قتالاً عظيمًا، وكان يكبِّر، ويحمل على مَن أمامه من الفُرْس، فيقتله ويدقُّ صُلْبه، وكان سعد
أشكر الشريف محمد بن حسين الشنبري
وأتمنى له التوفيق
مشكور ياشريف على هذا الإبداع