من نفائس المخطوطات العربية في إيران
أ. إياد الطباع
كتب الله لي زيارة إيران مرتين، وشاهدتُ فيها بعضاً من الخزائن والمكتبات التي تحتوي على نسخ خطية، وزرتُ بعضاً من الخزائن والمكتبات في الدول العربية وغيرها، واطلعتُ بحكم عملي على نحو ألفٍ وخمس مئة فهرس لمخطوطات عربية في مختلف البلدان، وخرجتُ بنتيجة مفادها أنّ الهند وإيران تأتيان في المرتبة الثانية بعد تركية في عدد المخطوطات المتوافرة في العالم، إذ إنّ المكثر يقول: إنّ تركية تحوي ثلاثة ملايين مخطوط، والمُقلّ يقول: إنّ فيها مليون مخطوط.
وأمّا الهند وإيران، ففي كلٍّ منهما ما لا يقل عن ربع مليون مخطوط تقديراً. وقد سعدت عندما قال الدكتور المرعشي عن وجود ما لا يقل عن نصف مليون مخطوط، وفي إيران تتوزع المخطوطات حـسب علمنا في تسع عشر مدينة صدر لها نحوُ مئتي فهرس [١].
ولم يقم أي تعاون فعال بين إيران والدول العربية في مجال تصوير المخطوطات وتبادلها سوى مرتين: المرة الأولى في نيسان سنة ١٩٦٠، حيث قامت بعثة من معهد المخطوطات العربية برئاسة الأستاذ د. صلاح الدين المنجد بزيارة إيران، وصوّر نحو (١٢٥) مخطوطـاً، وذلك من ست مكتبات في طهران وثلاث مكتبات في مشهد [٢]، خلال أربعين يوماً.
والثانية سـنة ١٩٩٨ عندما زارت بعثة من مركز جمعة الماجد للثقافـة والتراث بدبي إيران، ولبثت فيها شهرين، وصوّرت كثيراً من المخطوطات المتوافرة فيها، وكانت فاتحة تعاون في مجال تبادل المخطوطات.
ولا أحسب أنّ أيّ تعاون حصل بهذا المقدار مع أيّ من المؤسسات بين إيران والدول العربية.
يقول د. المنجد: ما تزال إيران تحفظ في مكتباتها العامة والخاصة العدد الكبير من المخطوطات العربية النادرة وقد دُهشتُ جداً عندما رأيتُ هذه الوفرة وثمة أمرٌ يدعو إلى الدهشة هو أن هذه المخطوطات فيها الكثير مما يرجع تاريخه إلى زمن بعيد جداً، وعلى الأخص من القرن الثالث حتى السادس، أما ما كُتب بعد القرن السادس فكثير [٣].
وكتب الدكتور حسين علي محفوظ، الذي أقام بطهران خمس سنوات، بحثاً حافلاً بعنوان (نفائس المخطوطات العربية في إيران) [٤] أفاد فيه وأجاد، إذ قصد ثلاثين خِزانة في ستّ مدن هي طهران وتبريز وأصفهان وزنجان وقم ومشهد، ووصف منتقيات من سبع عشرة خزانة، عدّها من المقتنيات النادرة فيها. وذكر عدداً كثيراً من المخطوطات التي كُتبت بخطّ مؤلفيها أو في قرون متقدمة، يضيق البحثُ عن ذكرها.
غير أنّ إيراد عناوين مخطوطات لنفائس النسخ في إيران هو على سبيل المثال لا الحصر، فعددٌ هائل من المخطوطات النفيسة تقصر عنه هذه الصفحة، وحسبي الإشارة إلى بعض منها:
ففي خزانة حاج حسين ملك التمار في طهران طائفة قيّمة من أصول التاريخ ودواوين الأدب وكتب العلوم مثل:
- ديوان الأدب في اللغة للفارابي، نُسخ سنة ٤١٩.
- كتاب شرخ الثمرة لبطليموس لأحمد بن يوسف المصري المهندس كاتب آل طولون، نسخ سنة ٣٧١.
- الوجيز للغزالي، نسخ سنة ٥٨٤.
- الشفاء لابن سينا نسخ سنة ٥٠٩.
- القانون في الطب نسخ سنة ٥٩١.
وفي دار الكتب الرضوية، أذكر:
- نثر الدر للآبي، نسخ سنة ٥٦٥.
- ديوان المتنبي، نسخ سنة ٥٩٧.
- معاني القرآن للأخفش الأوسط، نسخ سنة ٥١١.
- حقائق التأويل للشريف الرضي، نسخ سنة ٥٢٢.
- زاد المسير في التفسير، لابن الجوزي، نسخ سنة ٦٣٤.
- نهج البلاغة بخط ياقوت المعتصمي، نسخ سنة ٧٠١.
وفي دار الكتب الوطنية بطهران:
- حاشية تفسير البيضاوي، لأسد بن معين الدين بخطه سنة ٩٩٣.
- الوشي المرقوم في حل المنظوم، لضياء الدين بن الأثير بخطه.
- الوسيط في المذهب للغزالي نسخ سنة ٧٥٢.
- الطبقات لابن سعد، نسخ سنة ٦٧٩.
- بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس بخط المؤلف.
- شرح الحكم العطائية لابن عبّاد الرندي، نسخ سنة ٧٠٥.
- المغرب في اللغة للمطرزي، نسخ سنة ٦٤٦.
وفي خزانة مجلس الشورى:
- رسائل إبراهيم بن هلال الصابئ الحراني، مكتوبة في القرن الخامس.
- تهذيب: إصلاح المنطق لأبي زكريا التبريزي كتب في بغداد سنة ٤٩٧.
- بحار الأنوار للمجلسي ج ٥ المتوفى سنة ١١١١ مكتوباً في عصر المؤلف وعليه خطه.
- مواقع النجوم، لابن العربي، كتب سنة ٦٥٣.
- ديوان المتنبي بخط صفي الدين إسماعيل بن عبد الله السعدي الشافعي سنة ٥٩٦.
- مجموع كتب جالينوس الحكيم، عليه قراءة سنة ٧٠٦.
- المختصر في الطب، لعلي بن محمدالمتطبب الأبرزي بخطه سنة ٧٩٦.
إضافة إلى تلك العناوين نجد أن نسخة من المغني لابن هشـام بخطه متوافرة في خزانة فخر الدين النصيري في طهران، ونسخة من الجزء الأول من (التهذيب في التفسير) للحاكم الجشمي في مكتبة الكَلبيكَاني كتب في القرن السادس، والنسخة نفسها يوجد منها ثلاثة أجزاء في الفاتيكان.
ولم أذكر هذه الكتب كما أسلفت إلا مثالاً على ما تحويه بعض المكتبات من النوادر.
غير أنّ من المخطوطات ما هو مثير للجدل، وحَريّ بالبحث، فقد لفت نظري نسخة خطية من كتاب (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) لابن وحشية النبطي محفوظة في مكتبة عالي سبهسالار بطهران، وصف فيه مؤلفه أصول الأقلام التي تداولتها الأمم الماضية، والحكماء السالفون، والفلاسفة العارفون، كما يقول المؤلف في مقدمته، ذاكراً القلم بِرسْمه القديم، واسمه المشهور، وشرح حروفه بالقلم العربي تحته.
وأشار ابن وحشية في الباب الثامن من كتابه إلى كتاب آخر في هذا الموضوع بقوله: «فمن أراد أن يطّلع على حقائق فنّ الأقلام فليراجع كتاب (حل الرموز ومفاتيح الكنوز) لجابر بن حيان الصوفي فإنه استوفى ما يلزمُ هذه الصناعةَ من اللوازم تفصيلاً وإجمالاً».
ولا يفوتنا أن نذكر إشارة ابن وحشيّة في الباب الثامن يفت إلى كتاب ترجمه من اللسان النبطي أسماه (شمس الشموس وقمر الأقمار في كشف رموز الهرامسة [٥] وما لهم من الخفايا والأسرار).
وقد جاء كتاب ابن وحشية في ثمانية أبواب ضمّ كلّ بابٍ فصولاً عدّة، وكانت بدايته بالأقلام الثلاثة الكوفي والمغربي والهندي، ونهاية الأبواب في أقلام الهرامسة والكلدانيين.
ترجمة المؤلف ابن وحشية
هو أبو بكر أحمد بن علي بن المختار الكلداني، أحد فصحاء النبط، من أسرةٍ آراميةٍ بالعراق، عُني بالكيمياء، والفلاحة، والسحر، والسموم والعلوم الخفية.
اتُّهم ابن وحشية بالشعوبية بمفاخرته بانتسابه إلى قدماء الآراميين، ويشهدُ لذلك قوله في أواخر كتابه: وأما الكلدانيون فكانوا أعلم الناس في زمانهم بالعلوم والمعارف والحكم والصنائع، وكان الأكراد الأول يريدون مناظرتهم ومماثلتهم، ولكن شتان ما بين الثرى والثريا، وإنما كانت براعةُ الأكراد الأّول في صناعة الفلاحة وخواص النبات.
يقول عنه بروكلمان: حاول في كتابه الأساسي (الفلاحة النبطية) على طريقة الشعوبية أن يُثبت أن حضارة البابليين القدامى كانت تسمو كثيراً على حضارة العرب الغالبيين، ولكن لأنه لم يكن له علم حقيقيٌّ بتلك الحضارة اخترع مصادر كاملة أضافها إلى المصادر الهلنستية القليلة التي أمكنه الاطلاع عليها مترجمة. [٦]
وقد قام ابن وحشية بتأليف كثير من الكتب وترجمتها، اعتنى بذكرها الندّيم في (الفهرست) [٧] منها الأصول الكبير، والأصول الصغير، وكتاب المدرجة وكتاب المذاكرات، وهي كلها في الكيمياء، وكتاب مذاهب الكلدانيين في الأصنام، وكتاب الإشارة في السحر، وكتاب أسرار الكواكب، وكتاب الفلاحة الكبير والصغير وكتاب الطبيعة.
وكتابه (شوق المستهام) نُشر منذ نحو قرنين من الزمن سنة ١٨٠٦ على يد المستشرق النمساوي يوسُف همّر، هذا المستشرق الذي تعلم في الأكاديمية الشرقية في فيينا بعض اللغات الشرقية: التركية، والعربية، والفارسية وذلك سنة ١٧٨٨، ثم عُيّن سكرتيراً في وزارة الخارجية، أُرسل بعدها إلى إستانبول ليكون مترجماً للقاصد الرسولي فيها، ثم أرسله إلى مصر، ثم شغل مناصب استشارية ووظيفية عليا، حيث عُيّن رئيساً لأكاديمية فيينا، حيث تُوفي فيها سنة ١٨٥٦.
كان همّر غزير الإنتاج فأصدر من عام ١٨٠٨ إلى عام ١٨١٨ مجلة كنوز الشرق في ستة مجلدات وجعل شعارها الآية الكريمة ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [٨].
ومن أبرز أعماله (تاريخ الأدب العربي). وله (تاريخ الدولة العثمانية) وشارك في وضع (معجم منينسكي Meninski) العربي - الفارسي - التركي، وقد بقيت كتبه في التاريخ العثماني لفترة طويلة من المراجع الأساسية، أو أعماله - كما يقول عبد الرحمن بدوي - كلها تمثل مرحلة عظيمة في تاريخ الاستشراق في أوربا عامة، وفي ألمانيا بخاصة، وربما كان همّر خير وسيط ظهر حتى الآن بين الشرق الإسلامي وأوربا [٩].
لماذا هذا الكتاب مثيرٌ للجدل وحريٌ بالبحث؟
في عام ١٧٩٩ اكتُشف في دلتا مصر العربية (حجر الرشيد). عليه كتابات قديمة وذلك من قبل فرنسي يُدعى بوشار، وهو ضابط في حملة نابليون، وبعد انسحاب الحملة الفرنسية نُقل الحجر إلى لندن عام ١٨٠٢م هدية إلى ملك إنجلترا جورج الثالث، الذي أهداه بدوره إلى المتحف البريطاني وما زال فيه حتى الآن.
وبدتْ على الحجم ثلاثة مقاطع بخطوط مختلفة وهي الهيروغليفية (الكتابة المصرية الرسمية) والديموطيقية (المشتقة تبسيطاً من الهيروغليفية)، واليونانية. ومن الخط اليوناني الذي كان معروفاً، توقع العلماء معرفة الخطين الآخرين على افتراض أن المقاطع الثلاثة هي للنص نفسه.
ومن خلال مقارنة هذه الخطوط الثلاثة تمّ تحليل النصين المصريين (الهيروغليفي والديموطيقي)، بدأ بذلك الإنكليزي (توماس ينغ) وأتم التحليل النهائي العالم الفرنسي (جان فرانكو شامبليون) الذي قدم نتائج عمله إلى الأكاديمية الفرنسية عام ١٨٢٢م، ومنذ هذا التاريخ قُرأت الهيروغليفية، فتعرف العالم على تاريخ مصر القديمة وحضارتها [١٠]، ونُسب اكتشاف رموز الكتابة الهيروغليفية إليه.
في الواقع، يقدم كتاب ابن وحشية حلاً لحروف الهجاء والأشكال التي كان يستعملها المصريون القدماء والهرامسة في كتاباتهم قبل ألف عام من حل شامبليون للكتابات الهيروغليفية، إذ فيه إشارات لبعض الحروف الهيروغليفية ورموز تتعلق بعلم الهيئة والكيمياء كانت مستعملة قديماً.
ويرى أحد الباحثين السوريين [١١] أن شامبليون استعان في حل رموز الكتابة الهيروغليفية بكتاب ابن وحشية. والواقع فإن المستشرق همّر نشر كتاب ابن وحشية في لندن سنة ١٨٠٦م، وتم حل الكتابة على يد شامبليون سنة ١٨٢٢م كما أسلفنا، وقد وجّه المستشرق همّر في مقدمته الإنكليزية للكتاب إلى الاستفادة من هذا الكتاب في حل الكتابات الهيروغليفية؛ وإننا نرى أن تاريخ نشر الكتاب سابق لتاريخ حل الكتابة، وهذا ما يؤيد هذا المذهب.
وأخيراً، فإنني أدعو مؤرخي العلوم وعلماء الآثار للاستفادة من هذا الكتاب ودراسته في ضوء ما استجد من علوم ومعارف، وأوصي مؤتمركم الكريم، وخيرُ الوُصاة ما كان ذا فائدة، بإنشاء مركز لتبادل المخطوطات في دمشق بين إيران والبلدان العربية يكون صلة بين الباحثين في بلاد فارس والبلدان العربية يلبي احتياجات المحققين ويكون جسراً ثقافياً يعبر عليه تراثنا، وتنتقل فيه المعرفة الإنسانية. تتوافر فيه فهارس المكتبات بالإيرانية، وتفتح أمامه أبواب التصوير منها ويزود بالمقابل ما يحتاجه العلماء والباحثون في إيران من مخطوطات متوافرة في الدول التي لا يمكنهم التصوير منها. وعلى الله الاتكال إنه نعم المولى ونعم النصير.
* باحث في المخطوطات العربية، له العديد من الكتب تأليفاً وتحقيقاً.
[١] فهارس المخطوطات العربية في العالم ١ / ١٧٩ - ٢٣٠.
[٢] مجلة معهد المخطوطات العربية مجلة ٦ / ص٣٢٥ (١٩٦٠)، وذكر عوّاد في (فهارس =المخطوطات العربية في العالم) ١ / ١٨٥، أن البعثة صوّرت ٣٤٦ مخطوطة، وذلك نقلاً عن مجلة المعهد ٢١ (١٩٧٥) ص ١٥٩ - ١٦٥.
[٣] مجلة المعهد ٦ / ٣٢٥.
[٤] نشره في مجلة المعهد ٣ (١٩٥٧)، ص٣ - ٧٨.
[٥] الهرامسة: نسبة إلى (هرمس ترسمجستوس) أي هرمس المعظم ثلاثاً، وهو الإله الأسطوري المصري القديم. ثوث، واسمه الذي ذكرناه أولاً هو تسمية الإغريق =القدماء، له أهمية خاصة لارتباطه بتراث من المعرفة الباطنية التي تعود إلى القرن الثالث الميلادي والتي أنتجت الكثير من المؤلفات والأفكار عن قرون عديدة وثقافات مختلفة تجمل أحياناً تحت اسم (الهرمسية). الموسوعة العربية العالمية، ٢٦ / ١٠١.
[٦] تاريخ الأدب العربي القسم الثاني (٣ - ٤)، ص٧٢٨ وما بعدها (الهلنستية).
[٧] الفهرست ص٣٧٢ و٤٢٣، بتحقيق رضا تجدّد.
[٨] البقرة: ١٤٢.
[٩] انظر أعماله وترجمته في (موسوعة المستشرقين) لعبد الرحمن بدوي ص ٤٢٥ - ٤٢٨، و (المستشرقون) لنجيب العقيقي ٢ / ٦٢٧ - ٦٢٩.
[١٠] أطلس التاريخ الإسلامي ص٧٠، وانظر الموسوعة العربية العالمية ٢٦ / ٣٢٣.
[١١] هو الدكتور بهجت قبيسي.