شرح حديث الهجرة من بلاد المشركين لديار الإسلام
للعلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
للعلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
قال صلى الله عليه وسلم" إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وفارقتم المشركين وأعطيتم من الغنائم الخمس وسهم النبي صلى الله عليه وسلم، والصفي - وربما قال: وصفيه - فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله ".
قلت: في هذا الحديث بعض الأحكام التي تتعلق بدعوة الكفار إلى
الإسلام، من ذلك: أن لهم الأمان إذا قاموا بما فرض الله عليهم، ومنها: أن
يفارقوا المشركين ويهاجروا إلى بلاد المسلمين. وفي هذا أحاديث كثيرة، يلتقي
كلها على حض من أسلم على المفارقة، كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من
كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى نارهما "، وفي بعضها أن النبي
صلى الله عليه وسلم اشترط على بعضهم في البيعة أن يفارق المشرك. وفي بعضها
قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا،
أو يفارق المشركين إلى المسلمين ". إلى غير ذلك من الأحاديث، وقد خرجت بعضها
في " الإرواء " (5 / 29 - 33) وفيما تقدم برقم (636) . وإن مما يؤسف له
أشد الأسف أن الذين يسلمون في العصر الحاضر - مع كثرتهم والحمد لله - لا
يتجاوبون مع هذا الحكم من المفارقة، وهجرتهم إلى بلاد الإسلام، إلا القليل
منهم، وأنا أعزو ذلك إلى أمرين اثنين: الأول: تكالبهم على الدنيا، وتيسر
وسائل العيش والرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة، لا روح
فيها، كما هو معلوم، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا تتوفر
لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم. والآخر - وهو الأهم -: جهلهم
بهذا الحكم، وهم في ذلك معذورون، لأنهم لم يسمعوا به من أحد من الدعاة الذين
تذاع كلماتهم مترجمة ببعض اللغات الأجنبية، أو من الذين يذهبون إليهم باسم
الدعوة لأن أكثرهم ليسوا فقهاء وبخاصة منهم جماعة التبليغ، بل إنهم ليزدادون
لصوقا ببلادهم، حينما يرون كثيرا من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم
إلى بلاد الكفار! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل
هذا الحكم والمسلمون أنفسهم مخالفون له؟! ألا فليعلم هؤلاء وهؤلاء أن الهجرة
ماضيه كالجهاد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو
يقاتل "، وفي حديث آخر: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع
التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " وهو مخرج في " الإرواء " (1208) . ومما
ينبغي أن يعلم أن الهجرة أنواع ولأسباب عدة، ولبيانها مجال آخر، والمهم
هنا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام مهما كان الحكام فيها منحرفين عن
الإسلام، أو مقصرين في تطبيق أحكامه، فهي على كل حال خير بما لا يوصف من بلاد
الكفر أخلاقا وتدينا وسلوكا، وليس الأمر - بداهة - كما زعم أحد الجهلة
الحمقى الهوج من الخطباء: " والله لو خيرت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود
وبين أن أعيش في أي عاصمة عربية لاخترت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود "
! وزاد على ذلك فقال ما نصه: " ما أرى إلا أن الهجرة واجبة من الجزائر إلى (
تل أبيب) "!! كذا قال فض فوه، فإن بطلانه لا يخفى على مسلم مهما كان غبيا!
ولتقريب ما ذكرت من الخيرية إلى أذهان القراء المحبين للحق الحريصين على
معرفته واتباعه، الذين لا يهولهم جعجعة الصائحين، وصراخ الممثلين،
واضطراب الموتورين من الحاسدين والحاقدين من الخطباء والكاتبين: أقول لأولئك
المحبين: تذكروا على الأقل حديثين اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أحدهما: " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها ". أخرجه
البخاري ومسلم وغيرهما. والآخر: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق
حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون "، وهو حديث صحيح متواتر رواه جماعة من
الصحابة، وتقدم تخريجه عن جمع منهم برقم (270 و 1108 و 1955 و 1956) ، و "صحيح أبي داود " (1245) ، وفي بعضها أنهم " أهل المغرب " أي الشام، وجاء
ذلك مفسرا عند البخاري وغيره عن معاذ، وعند الترمذي وغيره مرفوعا بلفظ: "
إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي.. " الحديث. وفي
هذه الأحاديث إشارة قوية إلى أن العبرة في البلاد إنما هي بالسكان وليس
بالحيطان. وقد أفصح عن هذه الحقيقة سلمان الفارسي رضي الله عنه حين كتب أبو
الدرداء إليه: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض المقدسة
لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الإنسان عمله. (موطأ مالك 2 / 235) . ولذلك فمن
الجهل المميت والحماقة المتناهية - إن لم أقل وقلة الدين - أن يختار خطيب
أخرق الإقامة تحت الاحتلال اليهودي، ويوجب على الجزائريين المضطهدين أن
يهاجروا إلى (تل أبيب) ، دون بلده المسلم (عمان) مثلا، بل ودون مكة
والمدينة، متجاهلا ما نشره اليهود في فلسطين بعامة، و (تل أبيب) و (حيفا)
و (يافا) بخاصة من الفسق والفجور والخلاعة حتى سرى ذلك بين كثير من
المسلمين والمسلمات بحكم المجاورة والعدوى، مما لا يخفى على من ساكنهم ثم
نجاه الله منهم، أو يتردد على أهله هناك لزيارتهم في بعض الأحيان. وليس بخاف
على أحد أوتي شيئا من العلم ما في ذاك الاختيار من المخالفة
لصريح قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا
مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! فأولئك
مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا
يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله
عفوا غفورا، ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما (أي تحولا) كثيرا
وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع
أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) * (النساء 97 - 100) . قال الحافظ ابن
كثير في " تفسيره " (1 / 542) : " نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام
بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين،
فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية ". وإن مما لا يشك
فيه العالم الفقيه أن الآية بعمومها تدل على أكثر من الهجرة من بلاد الكفر،
وقد صرح بذلك الإمام القرطبي، فقال في " تفسيره " (5 / 346) : " وفي هذه
الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي، وقال سعيد ابن جبير:
إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها، وتلا: * (ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها؟) * ". وهذا الأثر رواه ابن أبي حاتم في " تفسيره " (2 / 174
/ 1) بسند صحيح عن سعيد. وأشار إليه الحافظ في " الفتح " فقال (8 / 263) :
" واستنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها
بالمعصية ".
وقد يظن بعض الجهلة من الخطباء والدكاترة والأساتذة، أن قوله
صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح " ناسخ للهجرة مطلقا، وهو جهل
فاضح بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وقد سمعت ذلك من بعض مدعي العلم من
الأساتذة في مناقشة جرت بيني وبينه بمناسبة الفتنة التي أثارها علي ذلك الخطيب
المشار إليه آنفا، فلما ذكرته بالحديث الصريح في عدم انقطاع التوبة المتقدم
بلفظ: " لا تنقطع الهجرة.. " إلخ.. لم يحر جوابا! وبهذه المناسبة أنقل إلى
القراء الكرام ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديثين المذكورين، وأنه لا
تعارض بينهما، فقال في " مجموع الفتاوى " (18 / 281) : " وكلاهما حق،
فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه، وهي الهجرة إلى المدينة من مكة
وغيرها من أرض العرب، فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر
وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
واجبة لمن قدر عليها، فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام ودخلت العرب في
الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام، فقال: " لا هجرة بعد الفتح "،
وكون الأرض دار كفر ودار إيمان، أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها: بل هي صفة
عارضة بحسب سكانها، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في
ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت، وكل أرض
سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت، فإن سكنها غير ما ذكرنا وتبدلت
بغيرهم فهي دارهم وكذلك المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أو
كنيسة يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه، وكذلك دار الخمر والفسوق ونحوها إذا
جعلت مسجدا يعبد الله فيه جل وعز كان بحسب ذلك، وكذلك الرجل الصالح يصير
فاسقا والكافر يصير مؤمنا أو المؤمن يصير كافرا أو نحو ذلك، كل بحسب انتقال
الأحوال من حال إلى حال وقد قال تعالى: * (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة
مطمئنة) * الآية نزلت في مكة لما كانت دار كفر وهي ما زالت في نفسها خير أرض
الله، وأحب أرض الله إليه، وإنما أراد سكانها. فقد روى الترمذي مرفوعا أنه
قال لمكة وهو واقف بالحزورة: " والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى
الله، ولولا قومي أخرجوني منك لما خرجت " (1) ، وفي رواية: " خير أرض الله
وأحب أرض الله إلي "، فبين أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله، وكان مقامه
بالمدينة ومقام من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة لأجل أنها دار هجرتهم
، ولهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة والمدينة، كما ثبت في الصحيح
: " رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا
مات مجاهدا، وجرى عليه عمله، وأجرى رزقه من الجنة، وأمن الفتان " (2) .
وفي السنن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " رباط يوم في سبيل
الله خير من ألف يوما فيما سواه من المنازل " (3) . وقال أبو هريرة (4) : لأن
أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود.
ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أطوع لله ورسوله، وهذا
يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل، وإنما
يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور،
وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان:
إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس العبد عمله. وكان النبي صلى الله عليه
وسلم قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء. وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في
أشياء من جملتها هذا. وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: * (سأريكم دار
الفاسقين) * وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة، ثم صارت بعد هذا دار
المؤمنين، وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة، وأرض مصر التي
أورثها الله بني إسرائيل، فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلما
وتارة كافرا، وتارة مؤمنا وتارة منافقا، وتارة برا تقيا وتارة فاسقا،
وتارة فاجرا شقيا. وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر
والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى
الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة، والله تعالى قال: * (
والذين آمنوا [من بعد] وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) * [الأنفال: 75
] . قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة
، وهكذا قوله تعالى: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا
وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * [النحل: 110] (1) يدخل في معناها كل من
فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من
العدو، وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك،
وصبر على ما أصابه من قول أو فعل. والله سبحانه وتعالى أعلم ".
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/ 855)
فأقول: هذه
الحقائق والدرر الفرائد من علم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يجهلها جهلا
تاما أولئك الخطباء والكتاب والدكاترة المنكرون لشرع الله * (وهم يحسبون
أنهم يحسنون صنعا) *، فأمروا الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم وحرموا عليهم
الهجرة منها، وهم يعلمون أن في ذلك فساد دينهم ودنياهم، وهلاك رجالهم
وفضيحة نسائهم، وانحراف فتيانهم وفتياتهم، كما تواترت الأخبار بذلك عنهم
بسبب تجبر اليهود عليهم، وكبسهم لدورهم والنساء في فروشهن، إلى غير ذلك من
المآسي والمخازي التي يعرفونها، ثم يتجاهلونها تجاهل النعامة الحمقاء للصياد
! فيا أسفي عليهم إنهم يجهلون، ويجهلون أنهم يجهلون، كيف لا وهم في القرآن
يقرؤون: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما
فعلوه إلا قليل منهم) *! وليت شعري ماذا يقولون في الفلسطينيين الذين كانوا
خرجوا من بلادهم تارة باسم لاجئين، وتارة باسم نازحين، أيقولون فيهم: إنهم
كانوا من الآثمين، بزعم أنهم فرغوا أرضهم لليهود؟! بلى. وماذا يقولون في
ملايين الأفغانيين الذين هاجروا من بلدهم إلى (بشاور) مع أن أرضهم لم تكن
محتلة من الروس احتلال اليهود لفلسطين؟! وأخيرا.. ماذا يقولون في البوسنيين
الذين لجأوا في هذه الأيام إلى بعض البلاد الإسلامية ومنها الأردن، هل يحرمون
عليهم أيضا خروجهم، ويقول فيهم أيضا رأس الفتنة: " يأتون إلينا؟ شو بساووا
هون؟! ". إنه يجهل أيضا قوله تعالى: * (والذين تبوءوا الدار والإيمان من
قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *، أم هم كما قال تعالى في بعضهم: * (يحلونه عاما
ويحرمونه عاما) *؟!
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأنباء من لم تزود
المصدر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/847- 855).