• ×

قُرَيْشٌ قريش في العربية الاعتبارت في اشتقاق التَّسْمِيَةُ حَدُّ قريش

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
[size=6]رسائل في نسب النبي وأهل بيته


قُرَيْشٌ

قريش في العربية

الاعتبارت في اشتقاق التَّسْمِيَةُ

حَدُّ قريش


جمعه
السيد الحسين بن حيدر محبوب الهاشمي
المدينة المنورة




قريش في العربية
تقول : قريشٌ وقريشُ ، فإذا أردتَ الحيَّ صرفته ، وإذا أردتَ القبيلة لم تصرفه ، وهو قد جاء في القرآن مصروفاً ، وجاء في الشعر على الوجهين ؛ مصروفاً وغير مصروف (1) ، والنسبة إلى قريش : قرشيّ ، وهو القياس وهو الأكثر ، قالوا : وللشاعر أن يقول قريشيّ إذا اضطر ، وعن الخليل في النادر : قريشيّ (2) .


الاعتبارات في اشتقاقات التسمية
قد كان لاختلافهم في تحديد قريش أثرٌ في بعض المسائل الفقهية كما كان له أثرٌ في بعض النظريات والتحليلات التاريخية .. ثم إنا وجدنا الناس متفاوتون في حصر القرشيين في أحد من رجالات عمود النسب النبوي النبيل ، فأضيق دائرة كانت عند من جعل قصي بن كلاب رجل العمود السادس الجد الجامع لقريش ، وأوسع دائرة كانت لدى من قال هو النضر بن كنانة (3) ،
__________
(1) أنظر تحرير التنبيه للنووي ، تحقيق د.فايز الداية ود.محمد الداية ، ط 1 ، دار الفكر المعاصر ، بيروت 279 ، وتاج العروس مادة قريش 4/337 ، والتوضيح لابن الملقن 398.
(2) تاج العروس وغيره ، وفي التوضيح لابن الملقن عكس هذا كله ولعله سهو 399 .
(3) بل زعم قوم أن قريش هم أولاد الياس بن مضر ، فيدخل في مسمى قريش سائر بنو كنانة بن خزيمة وبنو أسد بن خزيمة بن مدركة ، وبنو هذيل بن مدركة ، وبنو تميم بن مر بن أد، وبنو ضبة، ومزينة ، ونُسِب هذا القول إلى أبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش وحماد بن سلمة والقاضي عبيد الله بن حسن وسوار بن عبد الله وأبي الأسود الدؤلي .
وتوسع غيرهم فزعم أن قريشاً كل بني مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، فدخل كل قبائل قيس عيلان ، ونُسِبَ هذا القول لمسعر بن كدام كما نسب إلى حذيفة بن اليمان ، ولا يصح عنه ، وكل ذلك من الأقوال التي لا يعبأ بها ولا يعتد بها لأنها مردودة ولا أحسبها تصح نسبتها لمن ذكر ، أنظر الإمامة العظمى للدميجي صفحة 268 نقلاً عن كتاب أصول الدين لعبد القادر البغدادي ، وانظر النجم الوهاج للدميري 6/393 ، وكأن الذي توسَّع إنما نظر إلى تعصب بني مضر لبعضهم البعض ، ولكن هذا طبيعي ونجده في كل بني أب .

أي أنه الرجل الرابع عشر من رجالات العمود الشريف ، وكلا القولين صادق في الذات عند النظر ، وبين القولين أقوال ، ولكن الأسلوب الذي أُتُخذ ليس هو الأسلوب الأمثل في معالجة هذه القضية ، فلو قسّمت القضيّة وفصّلت؛ لكان ثَمّ الرأي ، وما من ريب في أنّ الفهريّ ـ أي الذي ولده فهرٌ ـ هو قرشيّ حقاً حقاً ، وكذا من ولده النضر بن كنانة على التحقيق ، ولا معنى لقول من قال إن الخلاف متطرق لمن ولده مالك بن النضر أو لمن ولده النضر بن كنانة وأنّ من ولده فهر فلا خلاف في قرشيته وأنّ من كان من كنانة غير النضر بن كنانة أنه لا خلاف في عدم كونه من قريش ، لأنّ الخلاف فيه ضعيف ، وسببه عدم تمحض التقريش في باقي أولاد فهر ؛ حاشا غالب بن فهر الذي خلصت فيه التسمية كما خلصت في بعض رجالاتِ العمود ، وكانت أصدق ما تقال حين تقال فيه وفي نسله مع انتفاء الكذب ما لو قيلت في غيره من بني أبيه كما سيأتي بيانه إن شاء الله في سبب التسمية ، ومن سبب الإشكال أيضاً أنه ما من رجلٍ من رجالات العمود إلا وقد أعقب رجلاً مسامت له في المرؤة والسيادة والنبل والشرف ، موافق له في الأخلاق والآراء ، مضارع له في الجِبلَّة والفِطرة ، على حدّ قول الأول:
نسبٌ كأن عليه من شمسِ الضحى ... نوراً ومِن فلقِ الصباح عَمُودَا
ما فيه إلاَّ سيدٌ من سيدٍ ... حاز المكارم والتقى والجودا

فإن سِيرة الأول كَسِيْرَةِ الآخر منهم ، فلم يُدرى أيهم كان المِفْصَلُ ، فاستعان القوم بحديث الصفا ، حيث صعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم الصفا وجعل ينادي في بطون قريش وقبائلها ، فقال بعضهم إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم رتب قريشاً أمامه ، وجعلهم على مراتب ، وأنزلهم مقامات مختلفة ، وهذا يدل على أن ما كل قريش قرابة، وقال آخرون : إن هذا دليلٌ على أن قريشاً كلها على بكرة أبيها ذوي قربى ، إلا أن هؤلاء اختلفوا في الذي هو قريش ، فقالوا : إنّ قريشاً كلها ذوي قرباه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم ، إلا أنّ قسمة الخُمس مثلاً ما دامت أنها كانت موكولةً إلى رأيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم واجتهاده ـ في رأي من يرى ذلك ـ فقد أعطاها لمن كانت له نصرة دون غيرهم ، وقد أدرك الإمام أبي بكر الجصاص من الحنفية رحمه الله تلك المقامات للقرابة ، وتلك الدرجات ، وأدرك ذلك جلُّ علماء السلف الصالح ، فقال الجصاص من بعد ذكره لحديث الصفا الذي كان سببه نزول قول الله تعالى آية سورة الشعراء: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ومن بعد ذكره لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم لعليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه : ((اجمع لي بني هاشم)) ، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً ، قال : اسم القرابة واقعٌ على هؤلاء كلهم لدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم إياهم عند نزول قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فثبت بذلك أن الاسم يتناول الجميع ، فقد تعلق بذوي قربى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم أحكام ثلاثة ، أحدها : استحقاق سهم من الخمس بقوله تعالى : {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم الفقراء منهم (1)
__________
(1) مذهب الحنفية في سهم قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخمس أنه يعطى لفقراء القرابة ولا يستوعبهم جميعاً ليشمل العطاء الميسورين ..

على شروط مختلف فيها ذكرها الفقهاء ، والثاني : تحريم الصدقة عليهم وهم آل عليّ , وآل العباس , وآل عقيل ، وآل جعفر , وولد الحارث بن عبد المطلب , وهؤلاء هم أهل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم ، ولا حظَّ لبني المطلب في هذا الحكم لأنهم ليسوا أهل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم , ولو كانوا من أهل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم لكانت بنو أمية من أهل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم ومن آله , ولا خلاف أنهم ليسوا كذلك ، فكذلك بنو المطلب لمساواتهم إياهم في نسبهم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم ، والثالث : تخصيص الله تعالى لنبيه بإنذار عشيرته الأقربين ، فانتظم بذلك بطون قريش كلها على ما ورد به الأثر في إنذاره إياهم عند نزول الآية (1) .
إذن ، فقد اختلف العلماءُ واللغويون وأهلُ الأخبار والسِيَر في تعيين الذي عرف بقريش أول مرة من عمود نسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم الذي منه تفرقت قبائلها ، وكان هو الجامع لها ، كما كان اختلافهم في السبب الذي من أجله سميت قريشٌ قريشاً .
__________
(1) أحكام القرآن 3/84ـ85 .

قالوا نحن نرى عمود نسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ولا نرى في عمود النسب ذكراً لقريش ، غير أننا لم نسمع بمخالف ولا موالف يُنكر أنّ ما بعد كنانة من هذا العمود يكون نسله هو ما يعرف بقريش ، ولم نسمع بمخالفٍ ولا موالفٍ يُنكِر أنّ قريشاً هم قوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم ، وأنها القبيلة التي ولدت هذا الرسول العظيم ، ولم نسمعهم ينكرون أن قريشاً كانوا يسكنون مكة في الجاهلية وصدر الإسلام ، وأن لقريش تلك المآثر التي آثرهم الله بها ، وهم من أصرح ولد عدنان ، وكل ذلك معلوم بالضرورة ومتواتر ومحسوس ، فمن هو الذي يجمع تلك القبائل القرشية والذي يكون هو قريش؟
وفي حقيقة الأمر لقد رأيت عدة أقوال ، كذا قالوا هي أقوال ، بيد أنني لا أسميها أقوالاً وإن كانت هي في الحقيقة أقوال ، وإنما أسميها اعتبارات . وهي اعتبارات لأنها لا ترقى لدرجة اليقينات ، ولكنها أعلى درجة من الوهميات .

لَيْس شَيْءٌ إلاّ وَفيهِ إذَا ... قَابَلَتْهُ عيْنُ البَصيرِ اعتبارُ

فرأيت عدة اعتبارات ذكرها المؤرخون والعلماء ، وأنا سارِدها ومبين لك أشدّها لزوماً بقريش ، وأصدقها على القوم، واعتمدتُ اعتبار القوة والشدة ؛ أما بقية الاعتبارات فهي تحكي ولا شك حال قريش وواقعها ، بيد أن اعتبار القوة والشدة كان هو مبدأ التسمية.



ورأيت أن أبدأ بتلك الاعتبارات التي قيلت في سبب التسمية، ومن ثم أعقبها بذكر رجل العامود الذي تصدق فيها تلك التسمية إن كان واحداً.

وفي هذه الاعتبارات نجدهم إما أرادوا ببعضها رجلاً من رجالات عمود النسب ، فكان ذلك الرجل هو السبب في حصول هذه التسمية للمجموع ، أو أنَّا نجدهم قد أرادوا ببعض هذه الاعتبارات المجموعة والقبيلة لا رجلاً معيَّناً ، فكانت تلك المجموعة برُمّتها هي السبب في حصول التسمية .

الاعتبار الأول
قالوا إنما سُميت قريشٌ قريشاً بسبب تجمُّعِها ، قيل : لتجمعها بمكة حول البيت مِن بعد فُرقةٍ في بادية كنانة ، فقد كانوا أصراماً في كنانة ، إذ إن القَرشَ هو الجمع ، قال السمينُ الحلبيّ : ذلك في بعض كلام العرب (1) . وقال البقاعيّ : المادة كلها للشدة والاختلاط (2) ، يقال : قرشه يقرشه قرشاً ، مِن حَدِّ ضَرَبَ يَضْرِبُه ، ويقرشه مِن حَدِّ نَصَرَ يَنْصُرُ بمعنى قطعه ، وقرشه جمعه ، وتقرش ، دبَقَ ولَزَقَ أي فيه معنى التجمع ، والقروش بالضم جمع قرش بالفتح ، وهو ما يجمع من ههنا وههنا ، وضم بعضه إلى بعض ، وبه فسر قول رؤبة(3):
قد كان يُغنيهم عن الشغوشِ
والخشل من تساقط القروشِ
سمنٌ ومحض ليس بالمغشوشِ
وتقرّش القومُ بمعنى اجتمعوا وتجمّعوا ، وفلانٌ يتقرّش المالَ بمعنى يجمعه ، قال الماورديّ (4) وأبو عمر بن عبد البر (5) وغيرهما : ومنه قول الشاعر (6):
إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من الدهر وقديم
__________
(1) 4/485 .
(2) نظم الدرر8/534 .
(3) تاج العروس 4/337ـ338 ، ولسان العرب11/107ـ108 .
(4) اعلام النبوة ، للماوردي ، دار الكتب العلمية 172 .
(5) الإنباه على قبائل الرواة ، للعلامة ابن عبد البر ، تحقيق إبراهيم الأبياري ، ط 1 ، دار الكتاب العربي ، بيروت 76 الرسائل كمالية ، 43 الأبياريّ .
(6) قال ابن عبد البر وغيره هو أبو جلدة اليشكري .

قال النسابة ابن فندق البيهقيّ : قيل : سمي قريش من التقرّش وهو التكسّب ، والتقلّب ، والجمع ، والطلب (1) ، والتجمّع ، قيل : هو التجمع حول رجل واحد منهم ، فكانوا كَيَدٍ واحدة على من سواهم ، وقيل : ـ كما سبق ـ : التجمع حوالي البيت بمكة ، وقال أبو البقاء العكبريّ : قريش هو تصغير ترخيم ، لأن القرش الجمع ، والفاعل قارش ، فقياسه قويرش ، فرُخّم وصُغِّر (2) ، وبهذا القول قال خلقٌ ، والتجمع في مكة يصدق على قريش من وجهين ، أحدهما حين جمعهم قصي بن كلاب حوالي البيت بمكة فلم يتفرقوا ، وثانيهما ، حين جمعهم هاشم بن عبد مناف على التجارة ، والتقرش التجمع والتكسب ، فبنو هاشم أحق قريش بهذه التسمية ، فكانت قريش بفضل تجارتها حاضرة لا يرتحلون عن ديارهم ، حاضري المسجد الحرام غير منفكين عنه ، لغناهم واستغنائهم عما بأيدي الناس ، قال الله تعالى عن الوليد بن المغيرة : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا {12} وَبَنِينَ شُهُودًا {13} وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا } إذ لو كان فراق الأولاد ولو زمناً يسيراً شاقاً , وكان ألزمهم له وأغناهم عن الضرب في الأرض نعمة أخرى ، قال : {شُهُودًا} أي حضوراً معه لغناه عن الأسفار لكثرة المال وانتشار الخدم وقوة الأعوان ، قاله البقاعيّ (3) , وهو
__________
(1) لباب الأنساب والألقاب والأعقاب ، للعلامة علي البيهقي ابن فندق المتوفى عام 565هـ ، تحقيق مهدي الرجائي ، ط مكتبة المرعشي ، قم ، إيران 1/191.
(2) إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن ، للعلامة أبو البقاء عبد الله العكبري المتوفى عام 616هـ ، تحقيق إبراهيم عوض ، دار الحديث ، القاهرة ، 2/295 .
(3) نظم الدرر 8/225 ..

يصدق على قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ، فقد كان يدعى مجمعاً ، فهو الذي جمع قريشاً بعد أن كانوا بادية مع كنانة ، قال ياقوت : القريش تصغير القرش ، وهو الجمع من ههنا وههنا ثم يضم بعضه إلى بعض ، وقيل : سميت قريش قريشاً لتقرّشها إلى مكة مِن حواليها حيت غلب عليها قصي بن كلاب (1) .
ولكن ليس كل قبائل قريش يجمعها قصي بن كلاب ، وليس قبائل قريش تفرقت من قصي بن كلاب ، إذن فهذا الاعتبار يصدق على قصي ، لذا كنت قد نعته بقريش الأصغر ، كما أنه يصدق على هاشم ، لأنه هو الذي ألف الإيلاف ، وقد كان قد جمع قريشاً على ماله وطعامه لما أصابهم الجوع ، والمُقَرِّشةُ ، السنة المَحْل الشديدة ، لأن الناس عند المحل يجتمعون ؛ فتنْضم حواشيهم وقواصيهم ، قال الأول : مقَرِّشات الزمن المحذور (2) .
وقصي جمع القبائل ليس ولادةً ، وإنما جمعها عصبيةً وأسكنها مكة ، قال الشاعر(3):
أبوكم قصيٌّ كان يُدعى مُجَمِّعَاً ... به جمعَ اللهُ القبائلَ من فهرِ
والتقريش خاص بقبائل قريش ، والتحبيش خاص بأحلاف قريش ، والتحميس خاص بمن ولدته قريش .
وقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب (4):
ولنا فضلها وطيب ثراها ... وبنا سُميتْ قريشٌ قريشاً
وقال آخر :
نحن كنا سكانها من قريش ... وبنا سميتْ قريشٌ قريشاً
__________
(1) معجم البلدان 4/383 .
(2) تاج العروس ولسان العرب .
(3) هو حذافة بن غانم القرشي العدوي، أو هو مطرود بن كعب الخزاعي، و استعاره الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب في شعره.
(4) المنمق لابن حبيب ، تحقيق خورشيد أحمد فارق ، ط 1 ، عالم الكتب ، بيروت 29 .

ذلك بأن قصي بن حكيم ، وحكيم هو كلاب بن مرة ، كان قد جمع بني النضر بن كنانة واستلَّهم من بني عمومتهم وأسكنهم مكة بعد أن نفى عنها خزاعة ، فقالت بنو بكر من كنانة : لقد تقرَّشَ بنو جَنْدَلَة ، وجندلة هي أمهم ، فسمي قصي مُجَمِّعاً ، وسمي بنو النضر قريشاً (1) ، قال ابن الكلبيّ في حكاية ابن جرير الطبريّ : إنما قريش جماع نسب ، ليس بأبٍ ولا أمٍ ، ولا حاضن ولا حاضنة (2) ، وفي حكاية ابن سعد : إنما سموا قريشاً لأن بني فهر الثلاثة كان اثنان منهم لأم والآخر لأم أخرى ، فافترقوا فنزلوا مكاناً من تهمة مكة ثم اجتمعوا بعد ذلك ، فقالت بنو بكر : لقد تقرَّش بنو جندلة (3) .
قال المناويّ : كان يقال لقصي القرش (4) ، فبنو قصي هم أمحض قريش ، وأحق قريشاً بقريشٍ ، وقال الماورديّ : وجمعهم من قبلُ ، فهرٌ ، لقتال حسان بن عبد كلال الحميريّ ، حسان تبع (5) .
ومعنى قولهم : تفرقت قبائل قريش من بني فهر بن مالك ، فيقال لهم بنو فهر، أي من فهر هذا انبثتْ قريش وانتشرت ، فهو أبوهم ، منه تفرقوا ، وهم أولاده ، عنده تجمعوا ، قال الحطيئة الشاعر:
وأن الذي أعطيتهم أو منعتهم ... لَكَالتمرِ أو أحلى لِحِلْف بني فهرِ
وكان لقريش الإيلاف ثم هو لبني عبد مناف منهم خاصة ، فقالت العرب : أقرش من المُجَبِّرين ، ويعنون بني عبد مناف (6) .
__________
(1) طبقات ابن سعد 1/69 ، والمنمق 29، 83، 231 ، وأعلام النبوة 172 .
(2) تاريخ الطبري 1/511 .
(3) الطبقات 1/57 .
(4) فيض القدير 2/501 .
(5) أعلام النبوة 173 .
(6) نشوة الطرب ، لابن سعيد الأندلسي ، تحقيق د.نصرت عبد الرحمن ، ط 1 ، مكتبة الأقصى ، عَمّان 1/328 ، حمهرة الأمثال 2/133 ، مجمع الأمثال ، للميداني ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ، دار المعرفة ، بيروت 2/127 .

وإنما قال حُذافة بن غانم شعره ذلك لمدح عبد المطلب بن هاشم وابنه أبي لهب بن عبد المطلب ، قال المصعب الزبيريّ : كان سبب هذا المدح أن نفراً من جُذَام خرجوا من مكة ، قد قضوا نسكهم ، ففقدوا صاحباً لهم ، فلقوا حذافة بن غانم فأخذوه ، فانطلقوا به معهم ، فلقوا عبد المطلب بعدما كُفَّ ، ومعه أبو لهب ، فصاح بهم حذافةُ بن غانم العدويّ ، فقال عبد المطلب لأبي لهب : ارجع فأتِ به ، فانطلق أبو لهب ، فكلَّم النفر الجذاميين وقال : قد عرفتم مالي وتجارتي ، وأنا ضامن لصاحبكم ، فأطلقوا هذا الرجل ، فأطلقوه ، فأقبل به إلى عبد المطلب ، فقال : هذا حذافة . فقال عبد المطلب : اسمعني صوتك يا أبا المُثلَّم ، فكلمه ، فانطلق به معه (1) .
فمن أجل ذلك مدحه حذافةُ بأبيات منها هذا البيت ، يقول : إن هذه العادة متأصلة فيهم ، فلستُ أنا أول من فعلوا معه هذا الفعل ، حيث جمعوا شمله بأهله وقومه ، وإنما فعل هذا من قبلهم أبوهم قصي الذي جمع الله به شمل قريش ، فهو مجمع .
__________
(1) نسب قريش 375 .

وهذا الاعتبار حكاه ابنُ عبد البر عن محمد بن جبير بن مطعم ، وقال: قال العدويّ: التجمع أصح ما فيه عندنا ، وجعل ابن عبد البر هذا الاعتبار هو المعول عليه (1) ، وقال القرطبيّ في تفسيره : قريش هو النضر ، والتقرش هو الاكتساب , وتقرشوا أي تجمعوا ، وهو أصح وأثبت (2) , وهذا الاعتبار حكاه الفخر الرازي قولاً في تفسيره (3)، والنسابة العلويّ القدير ابن عِنبة في عمدة الطالب، وكأنّه مال إليه (4)، وبه قال ابن حِبان في الثقات (5)، والميدانيّ في مجمع الأمثال (6)، وابن قتيبة في غريب الحديث (7) . (8)


الاعتبار الثاني

من التقرش وهو التَّقبُض والاجتماع ، ولما كانت هذه القبيلة جمعت قبائل سُميت قريشاً ، أي مجموع قبائل ، ولما كان الغالب على قريش التجارة فإنهم كانوا تجاراً دون غيرهم من الأعراب خاطبهم الله تعالى بقوله : {لإيلاف قريش * إيلافهم} . وبهذا قال ابن عربي الصوفي (9) . وهذا غير صحيح ، فهم أبناء رجل واحد وليسوا أحلافاً ، إلا ما ورد نفيه من أن يكون من نسله بطريق شرعي كالذي ورد في شعر حسان بن ثابت في زمن النبوة فقط .

الاعتبار الثالث
لأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها ، فقد كانوا يتجرون ويأخذون ويعطون ، من قولهم قد قرش الرجل يقرش إذا اتجر وأخذ وأعطى ، أي أخذ الشيء أولاً فأول (10) .
قال ابن قتيبة في المعاني الكبير (11) : قال القطاميّ:
قوارش بالرماح كأن فيها ... شواطن ينتزعن بها انتزاعاً
قال : إذا التقت الرماحُ سمعتَ لها صوتاً فهي قوارش ، يقال تناولت الشيء وتقرشته سواء ، ومنه سُميتْ قريش قريشاً لتناولها التجارة , وأنشد:

أحد كيحي في الطعان إذا اقـ ... ـترش القنا وتقعقع الحَجَف
وتقرشهم بالتجارة هنا غير تقرشهم بمعنى تجمعهم في الاعتبار السابق ، حيث تطرقنا لذكر الإيلاف .
قال ابن الملقن : أو من تقرش الشيء إذا أخذه أولاً فأول ، وكذلك قريش يأخذون مَن ناوأهم بحسن تدبر ورفق (12) .
__________
(1) الإنباه 45 .
(2) تفسير القرطبي 20/138 .
(3) مفاتح الغيب 32/100.
(4) عمدة الطالب 135 .
(5) الثقات 1/22.
(6) مجمع الأمثال 2/127 .
(7) غريب الحديث 1/283 .
(8) وانظر هذا الاعتبار : فتح الباري 6/534 ، عجالة المبتديء للحازمي 103 ، مسالك الأبصار لابن فضل الله 96 ، المفصل لجواد علي 1/401 ، التوضيح لابن الملقن395 , الخزانة 1/98 ، السيرة 1/126 ، جمهرة اللغة لابن دريد 2/731 ، الإشتقاق 155 ، البلاذري 1/50، 83، 231، 232 ، الأنساب للسمعاني 4/485 .

(9) تفسير رحمة من الرحمن 4/546 .
(10) تاج العروس 4/337، 338 ، الإنباه 45 , فتح الباري 6/534 , فيض القدير للمناوي رقم 2388 .
(11) المعاني الكبير ، للإمام ابن قتيبة الدينوري ، تحقيق عبد الرحمن اليماني ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت 2/1098 ، وانظر الأغاني 18/80.

(9) التصريح 398 .

الاعتبار الرابع
قالوا : أو لأنَّ النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوماً فقالوا : تقرَّش في ثوبه ، فغلب عليه ، وقالوا : وقد كان النضر يسمى القرشيّ (1).


الاعتبار الخامس
أو لأن النضر بن كنانة جاء إلى قومه يوماً فقالوا : أنظروا إلى النضر كأنه جمل قريش ، أي شديد ، فلقب به ، أو قالوا: جاء كأنه جمل قرش ، والقرش هو الشديد، فشبه بذلك (2) ، وهذا المعنى هو المعتبر في سبب التسمية كما سيأتيك في القول الأول من الاعتبار السابع ؛ وكما سيأتي في الاعتبار السابع عشر .


الاعتبار السادس
أو لأنهم كانوا يُقَرِّشون أي يفتشون عن الحَاج ـ بالتخفيف جمعُ حاجة ـ فيسدون خَلَّتها ، فمَن كان عارياً كَسَوْه ومن كان محتاجاً أغنوه , ومن كان مُعْدَماً واسوه ، ومن كان طريداً آووه ، ومن كان خائفاً حموه ، ومن كان ضالاً هدوه ، فكان النضر بن كنانة يفعل ذلك ، وكان بنوه من بعده على سُنَّته يقرشون أهل الموسم فيرفدونهم بما يبلغهم ، فسموا بذلك من فعلهم وقرشهم قريشاً ، وهو قول ينسب إلى معروف بن خربوذ (3) .
__________
(1) أنساب الأشراف ، للإمام البلاذري ، تحقيق د.سهيل زكار ود.رياض زركلي ، ط 1 ، دار الفكر ، بيروت 11/81 ، تاج العروس 4/337 ، الإنباه 44, 45 ، أعلام النبوة 173 ، فتح الباري 6/534 ، تاريخ الطبري 1/512 ، طبقات ابن سعد 1/59 ، فيض القدير 2/50 ، التوضيح لابن الملقن 396.
(2) نفس المصادر التي في الهامش السابق .
(3) تاج العروس 4/337 ، أعلام النبوة 173 ، الإيضاح لابن الملقن 395 ، تاريخ الطبري 1/511 ، البحر المحيط لأبي حيان 7/513 ، و الدر المصون للسمين الحلبي 6/572 ، و فتح الباري 6/534 ، الباجوري على الشنشوري 24 ، فيض القدير2/501 ، تفسير الآلوسي 30/238ـ239 .

فالتقرش هو التفحص ، والتفتيش ، والطلب ، وأنشدوا قول الشاعر (1):
أيَّها الناطقُ المُقَرِّشُ عنَّا ... عِند عمرو، وهلْ لذاك بقاءُ
روى ابن سعد بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال : لما نزل قصي بن كلاب الحرم وغلب عليه ، فعل أفعالاً جميلةً، فقيل له : القرشيّ, فهو أول من سُمي به (2).
وقال ابن عِنَبَة العلويّ النسابة بناءاً على هذا القول : فكان النضر أو ابنه مالك ، أو فهر يتفحص عن الرجال المحتاجين والمضرين ليعينهم (3) .
وقال العباس بن عبد المطلب يوماً : أنا المُسْقِي بن المسقي بن المسقي بن المسقي بن المسقي , خمس مرات ، وجده الخامس هو قصي بن كلاب .
وقال الشاعر عنهم (4):
أبلغْ قريشاً إذا ما جئتَها مِنَّا ... أنَّ الشجاعةَ منها والنَّدى خُلق
فخلصنا إلى أن أول من كان يفعل ذلك هو النضر بن كنانة ، وابنه مالك ، وابنه فهر بن مالك ، وحفيدهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر لما تغلب على الحرم ، فتمحض ذلك الفعل في قصي، فكان التقريش فيه أمحض من كل وجه ولكل وجه.


الاعتبار السابع
سميت بِمصغر دابة البحر - القِرْش - والتصغير للتعظيم ، وثمت أقوال ضمن هذا الاعتبار.


القول الأول من الاعتبار السابع
لغلبة قريش وقهرهم سائر القبائل كما تغلب دابة البحر - القرش - سائر دوابه ، وهي دابة من دواب البحر عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار ، تأكل دواب البحر ولا تؤكل ، وتعلو ولا تُعلَى ، وكذلك قريش سادات الناس جاهلية وإسلاماً .
نُسب هذا إلى ابن عباس , ومحمدِ بن سلام.
وأنشدوا استشهاداً لهذا شعراً فيه برود واضح ، قال في تاج العروس هو للمشمرج الحميريّ (5):
وقريشٌ هي التي تسكن البحر ... وبها سميتْ قريشٌ قريشاً
ونسبوه لتبع وزادوا عليه (6):
__________
(1) قيل : هو الحارث بن حلزة .
(2) الطبقات 1/59 .
(3) عمدة الطالب 135 .
(4) البيت في المنمق لابن حبيب 354 .
(5) تاج العروس 4/337 .
(6) تاج العروس 6/572 .

تأكل الغث والسمين ولا تتـ ... ـرك فيها لذي جناحين ريشاً
هكذا في البلاد حَيُّ قريش ... يأكلون البلاد أكلاً كميشاً
ولهم آخر الزمان نبيٌّ ... يكثر القتل فيهم والخموشاً
ونسبه في نظم الدُرَر(1) للجمحيّ وزاد فيه على البيت الأول الذي ذكره صاحب التاج:
سُلِّطتْ بالعلو في لُجَّةِ البحر على ... سائر الجيوش جيوشا
وهذا الوجه حكاه الفخرُ الرازيّ في تفسيره قولاً وقال : ومعلوم أن قريشاً موصوفون بهذه الصفات لأنها تَلي أمر الأمة ، فإنّ الأئمةَ من قريش (2) .
وجعله ابن عِنبة العلويّ أشهر الأقوال (3) ، وحكاه ابن خالويه قولاً ولم يعزه ، وقال : فلما كانت قريش هامة العرب ورئيستها سميت قريشاً لذلك (4) ، وهو الذي نُعّرِّجُ عليه ونعتبره أصدق الاعتبارات ، وبه قال من أشياخنا كالقاضي العلامة محمد الحافظ ؛ والعلامة أحمدو الشنقيطي وغيرهما . وهو لا يختلف عن الاعتبار الخامس الذي مرَّ آنفاً ، كما أنهما لا يختلفان في الحقيقة عن الاعتبار السابع عشر .

القول الثاني من الاعتبار السابع
زعم القلقشنديُّ أنّ النضر كان في سفينة ، فطلعت عليهم دآبَّةٌ من دوآبِّ البحر يقال لها قريش ، فخافها أهل السفينة ، فرماها بسهم ؛ فقتلها ؛ وقطع رأسها ؛ وحملها معه إلى مكة (5).


القول الثالث من الاعتبار السابع
قال السمعانيّ : وقد قيل : إنما سُميت قريش قريشاً لأنها كانت تجَّاراً تَكسب وتتَّجر وتحترش ، فشبهت بحوت في البحر (6) .
قال ياقوت الحمويّ عن الاعتبار السابع عموماً : وهذا الوجه عندي باردٌ , والشعر مصنوع جامدٌ , والذي تركن إليه نفسي أنه إما أن يكون من التجمع أو تكون القبيلة سميت باسم رجل منهم (7) .
__________
(1) نظم الدرر 8/534 . وانظر الأبيات في لسان العرب مادة ق ر ش ، ومعجم البلدان لياقوت 4/383 ، والمصادر الواردة في هذا المبحث .
(2) مفاتح الغيب 32/100 .
(3) عمدة الطالب 135 .
(4) تفسير ثلاثين سورة من القرآن 196 ، وأنظر هذا القول في الكشاف للزمخشري 4/235 ، زاد المسير لابن الجوزي 9/240 ، تاريخ ابن خلدون 2/387 ، الزاهر لابن الأنباري 2/120 .
(5) نهاية الأرب 356 .
(6) النسب 4/485 .
(7) معجم البلدان 4/383 ، وهذا الرجل ليس إلاّ رجلاً من رجالات العمود وليس من الأفناء كما سيتضح إن شاء الله .

ويلاحظ مع هذا الاعتبار أن قريش كانوا لقاحاً ، أي لا يدينون للملوك ؛ ولم يملكوا ؛ ولم يصبهم سبيٌ ؛ ولا يؤدون الأتاوة (1) .


الاعتبار الثامن
قال الزبيريّ في نسب قريش : قريش بن بدر بن يخلد بن النضر ، كان دليل بني كنانة في تجارتهم في الجاهلية ، فكان يقال : قدمت عِيْرُ قريش ، فبه سموا قريشاً ، وأبوه بدر بن يخلد صاحب بدر، الموضع الذي لقي فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم قريشاً (2).
من باب إطلاق البعض على الكل ، وهو عندي بعيد ، قال البلاذريّ : قال هشام بن الكلبيّ : ومما وضعه ابن سيف بن عمر بن الوليد بن أبان المنسوب إلى ضبة قال : ولد بدر بن يخلد : قريش بن بدر ، وبه سميت قريش ، كان دليلهم في عيرها ، وليس يعرف أبي هذا وإنما ينتهي إلى بدر.
قال هشام : وقال ابن سيف : إن الماء المعروف ببدر نسب إلى بدر بن يخلد هذا .
قال هشام : وقال أبي محمد بن السائب الكلبيّ : بدر الذي نسب الماء إليه من جهينة , والوادي يقال له يَلْيَل ، قال : وحكاه لي عن أبي صالح عن ابن عباس (3) .

فهذا الاعتبار ساقط نظراً لسقوط سيف بن عمر الوضَّاع ، وهو من الرواة الدجالين.



الاعتبار التاسع
قيل : لتجرها وتكسبها وضربها في البلاد تبتغي الرزق ، فقد كانوا تجاراً يأكلون من مكاسبهم، فلتلبسهم بالتجارة سموا قريشاً ، قال الزبيديّ في التاج : القرش الكسب كالاقتراش ، وقَرِشَ كعَلِمَ لغةٌ في قَرَشَ كضَرَبَ ، نقله الصاغانيّ ، وجمع القرش القروش ، قال رؤبةُ:
قَرْضِي ، وما جَمَّعْتُ مِن قُرُوشي
__________
(1) نهاية الأرب للألوسي 1/242 .
(2) نسب قريش 12 ، وانظره في التوضيح لابن الملقن 394 ، وعمدة الطالب 135 ، معجم البلدان 1/425 ، الإنباه 44 ، تاريخ الطبري 1/511 .
(3) أنساب الأشراف 11/80 .

وقيل : إنما يقال تقرش واقترش لأهله ، يقال قرش لأهله وتقرش واقترش وهو يقرش لأهله ويقترش أي يكتسب ، وقرش في معيشته من حد ضرب (1) .
قال الزمخشريّ : قيل ؛ من القرش ؛ وهو الكسب ، لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد (2) ، قال البلاذريّ : لقيتُ أعرابياً من كنانة بِالرَّبَذة سنة إحدى وثلاثين ومائتين فسألته عن حِمَار رأيته فقال : هو لي أقرش عليه قوت العيال ، أي أجمعه عليه (3) ، قال رؤبةُ بن العجَّاج:
قد كان يغنيهم عن الشُّغُوشِ
والخَشْلِ مِن تساقط القروشِ
شحمٌ ، ومحضٌ ؛ ليس بالمغشوشِ
وقال أبو جلدة اليشكريّ ، ويشكر من بكر بن وائل:
أخوةٌ قرَّشوا الذنوب علينا ... في حديث مِن عمرنا وقديم
وهذا الاعتبار قريب من الاعتبار الثالث , وأنت تجد تشابهاً وتداخلاً بين الاعتبارات ، ولعل ذلك ناتج عن الشغف بتكثير الأقوال ، والسمعاني في النسب كأنه جمع هذا الاعتبار إلى الاعتبار السابع ، إذ قال : لأنها كانت تجاراً تكسب وتتجر وتحترش ، فشبهت بحوت في البحر .
وهذا الاعتبار عزاه أبو حيان للفراء ، وهو اختيار ابن جزيّ الكلبيّ الغرناطيّ ، قال ابن الملقن في التوضيح : وفيه نظر ، لأن قريشاً لم يجتمعوا حتى جمعهم قصيُ بن كلاب ولم يجمع إلا ولدَ فهر (4) .
________
(1) تاج العروس 4/337 ، لسان العرب مادة ق, ر, ش11/108 ، فتح الباري 6/534 , الدر المصون 6/572 ، سيرة ابن هشام 1/103 .
(2) الكشاف 4/235 .
(3) أنساب الأشراف 11/80 .
(4) التوضيح 395 ، وأنظر هذا الاعتبار : غريب الحديث لأبي اسحاق الحربي 3/1031 ، البحر المحيط 7/513 ، تفسير الثعالبي 4/443 ، تفسير ابن جزي الكلبي 4/218 ، وتفسير ابن عطية 5/525 ، والمصادر السابقة.

وليس الأمر مشكلاً كما زعم ابن الملقن ، فقريش قبل قصي كانوا يعرفون ببني النضر بن كنانة ، وكانوا أصراماً في كنانة ، بادية معها ، فلما غلب قصيُ على مكة جمع بني النضر أو قل بني فهر ، فغلب عليهم اسم قريش ، ثم إن هاشم بن عبد مناف سنَّ لقريش الرحلتين.


الاعتبار العاشر
قيل : لأنهم كانوا أهل تجارة ، ليس مثلهم أحد من العرب ، ولم يكونوا أصحاب زرع كما الأنصار في المدينة وثقيف في الطائف ، ولا كانوا أصحاب ضرع كما أهل البادية وهم أغلب العرب ، وذلك من قولهم فلان يتقرَّش المالَ أي يجمعه (1) ، قال ابن خالويه : قريش تصغير قرش ، وهي التجارة ، سموا بذلك لأنهم كانوا تجاراً (2) .
وهو داخل في الذي قبله ، وهو أشبه الاعتبارات بالأول غير أن الأول جمع أنفُس وهذا جمع أموال ، ولعلهم قصدوا من هذا الاعتبار الإشعار بأنهم كانوا مخالفين في نمط معيشتهم لغيرهم من العرب ، فهو يختلف عن الذي قبله لأن ذلك قصد بكونهم تجاراً أنهم يجمعون المال لا كونهم منفردين عن العرب بمزاولة التجارة .
__________
(1) لسان العرب11/108 ، تاج العروس 4/337 ، تاريخ ابن خلدون2/387 ، زاد المسير9/240 عمدة الطالب135 .
(2) إعراب ثلاثين سورة من القرآن 196 ، وانظر هذا الاعتبار في تفسير الآلوسي 30/238ـ239 .

الاعتبار الحادي عشر
إنما قيل : قريش ؛ لأجل أنها تقرشتْ عن الغارات ، حكاه الطبريّ في تاريخه (1) ، ولا أدري ما وجهه لديه ، ولعله يقصد أنهم تنزّهوا عن الغارات لعدم حاجتهم إليها لأمنهم وغناهم ونمط معيشتهم المغاير لأغلب العرب الذين كان يغلب عليهم النمط البدوي في المعيشة ، أو لعل وجهه ، صرفت عنهم غارات الغازين وكيد الكائدين ، قال في اللسان : تقرش عن الشيء ، تنزَّهَ عنه (2) ، قال في المُنَمَّق : فضّل اللهُ قريشاً على سائر مضر لأنهم كانوا لا يظلمون الجار ولا يغير بعضهم على بعض ، وفضّل اللهُ بني هاشم على قريش لأنهم كانوا أوصلهم للأرحام وأكفهم عن الآثام (3) .
ولقريش نمطان من المعيشة ، فمن كان منها يسكن بطاح مكة ، حوالي الحرم يقال لهم قريش البِطَاح وهؤلاء كانوا حَضَرَاً ، ومن كان منهم يسكن ظاهر مكة ، أي حواليها ، كان يقال لهم قريش الظواهر وهؤلاء كانوا بدواً أو إلى البدو هم أقرب ، وكانوا يغزون على عادة البدو وسُنّتهم ، ويستمرؤون أكلَ الضب وما كان نحوه من الصيد ، على خلاف قريش البطاح ، وكان الظواهر يفخرون على البواطن أي البطاح بالمغازي والغارات ، يفخرون عليهم بظهورهم للعدو ، ولقائهم للمناسر ، وكانوا يسمون قريشاً البطاح بالضبّ ، لأنّ الضب لا يبرح جُحره ، وهم لا يبرحون الحرم (4) لا ينفكون عنه ، وكان البطاح يفخرون على الظواهر بمآثر قصي بن كلاب التي منها سدانة البيت وسقاية الحجيج ، وببيوتات قريش التي فيها عِزُّ قريش ، قال ضرار بن الخطاب من قريش الظواهر معرّضاً بقريش البطاح (5):
نحن بنو الحربِ العَوان نَشُنُّها ... وبالحربِ سُمِّيْنَا ، فنحن مُحارِبُ
إذا قصرت أسيافُنا كان وصالها ؛ ... خُطانا إلى أعدائنا فنضاربُ
فذلك أَفْنَانَا وأَبْقَى قبائلاً ... سِوانا ؛ تَوَقِّيِهمْ قراعَ الكتائبُ
__________
(1) تاريخ الطبري 1/511 .
(2) مادة ق, ر, ش 11/107 .
(3) المنمق 21 .
(4) أنساب الأشراف 1/39،40، 41 .
(5) ديوانه 46 .

وقال رجل من بني مرة بن عوف ينكر أنهم من قريش إما حقيقة وإما برآءة منهم لكونهم مخالفين له:
ألا لستم منا ولا نحن منكمُ ... برئنا إليكم من لؤي بن غالبِ
أقمنا على دفع الأعادي وأنتمُ ... مقيمون بالبطحاء بين الأخاشبِ
وما كانت الظواهر أشجع من البواطن ، ولا كانت أشرف ولا أنزه ، ومتى كانت الحرب كان الرئيس من البطاح دون الظواهر .
وهذا الاعتبار هو معنى قول الله تعالى : {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.


الاعتبار الثاني عشر
قيل : سموا بذلك لمعرفتهم بالطعان ، والتقريش هو وقع الأسنة ، فسموا قريش بتقارش الرماح (1) ، قال أبو عمر المطرز : لأنهم أحذق الناس بالطعان (2) .
يقال : تقارشت الرماحُ أي تداخلت في الحرب ، وتقارش القومُ أي تداخلوا في الحرب ، وكذلك تقرشت الرماح إذا تشاجرت وتداخلت ، ورماح قوارش ، وقد قرشوا بالرماح إذا طعنوا بها ، والقرش الطعن بالرماح ، واقترشت الرمح وتقرشت وتقارشت ، تطاعنوا بها فصكَّ بعضها بعضاً ، واقترشت وقع بعضها على بعض فسمعت لها صوتاً (3) .
قال القطاميّ:
قوارشُ بالرماحِ، كأنَّ فيها ... شواطِنَ ينْتَزعنَ بها انتزاعاً
قال ابن قتيبة في المعاني الكبير : قال : إذا التقت الرماح سمعتَ لها صوتاً فهي قوارش ، يقال : تناولتُ الشيء وتقرشته سواء ، ومنه سميت قريشٌ قريشاً لتناولها التجارة ! ، وأنشد :
أُحِدُّ كَيْحَيَّ في الطعان إذا اقـ ... ـترش القنا وتقعقع الحجف(4)
وقال أبو زيد:
إما تَقَرَّشْ بك السلاحُ، فلا ... أبْكيكَ إلا للدَّلو والمَرَسِ(5)
__________
(1) تفسير ثلاثين سورة لابن خالويه 196 ، فتح الباري 6/532 ، نظم الدرر 8/534 ، زاد المسير 9/240 ، اللباب لابن فندق 1/191 .
(2) التوضيح لابن الملقن 397 .
(3) لسان العرب11/108 ، تاج العروس4/338 .
(4) المعاني الكبير 2/1098 ، و البيت في الأغاني 18/80 .
(5) لسان العرب 11/108 .

وقال الآخر:
ولما دَنَا الراياتُ واقترشَ القنا ... وطارَ مع القومِ القلوبُ الواجِفُ(1)
وقال الحارث بن ظالم المريّ ناسباً نفسه إلى قريش:
رفعتُ الرمحَ إذ قالوا قريشاً ... وشَبَّهتُ العمائمَ والقبابا
وقومي إنْ سألتَ بنو لؤيٍ ... بمكة، علموا مُضَرَ الضرابا
وقال ضرار بن الخطاب الفهريّ رحمه الله في يوم بدر معرِّضاً بالأنصار في جاهليته ، زاعماً أن المسلمين ما انتصروا ذلك اليوم إلا بسبب الرهط القرشيين الذين معهم ، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم ومن معه من قريش:
هم الطاعنون الخيلَ في كل مَعْرَكٍ ... غداةَ الهياجِ الأطيبونَ الأكاثِرُ
والشعر في ذلك كثير .



الاعتبار الثالث عشر
قيل : هو مِنْ أَقْرَشَتْ الشجةُ إذا صدعت العظمَ ولم تهشمه ، حكاه ابن حجر العسقلانيّ في فتح الباري (2) .
قالوا : المقرِشةُ من الشِّجاجِ التي تصدعُ العظْمَ ولا تهشمه ، يقال : أَقْرَشَتْ الشَّجةُ فهي مقرِشةٌ إذا أحدثت ذلك بهذه الكيفية (3) .
فلعل مراد من قال بهذا الاعتبار أن قريشاً كانت لا تغير على أحدٍ لعظمها وخطرها ، وأن من تعدى عليها أو كادها فإنها تعاقبه معاقبة السيدُ لفتاه ، والأب لابنه ، والمعلم لتلميذه ، بدون إغارة ولا بغي ولا إفساد ، وكذلك يفعل الشهم صاحب الشكيمة والنخوة والحميّة.
__________
(1) البيت في زاد المسير 9/240 .
(2) الفتح 6/534 .
(3) لسان العرب مادة ق,ر,ش 11/107 .

أو لأن نبأ قريش قد طار في الآفاق وغاص في الأعماق وارتفع إلى الأفلاك ، فخافتها الأمم ، وهابتها القبائل وعظمتها ، من دون أن تغزوهم قريشُ ؛ أو تدمي لهم جلداً ؛ أو تُشْعر لهم عظماً ، فكأن مرادهم من هذا الاعتبار أن قريشاً أخضعت العرب لها من غير أن تغزوهم أو من غير ظلم ، إذ المعروف أن من لا يظلم يُظْلم ، ومن لا يُكْلِم يُكْلَم ، لأن الشُّطَّار يستضعفون الكريم الذي ينفع ولا يضر ، ولكن قريشاً لم تظلم ولم تكلم ومع ذلك كان جانبها عزيز ، وحماها لا يُضام .
قال قيس بن الخطيم في شعره الجاهلي :
إذا أنتَ لم تنفع فَضُرْ ، فإنما ... يُرجى الفتى كيما يضُرُ وينفعُ
قال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} .


الاعتبار الرابع عشر
قال ابن حجر العسقلانيّ : وقيل ؛ التقرش هو التنزُّه عن رذائل الأمور (1) ، يقال : تقرَّش الرجلُ ، إذا تنزَّه عن مدانس الأمور ، أو تقرَّشَ عن الشيء إذا تنزَّه عنه (2) .
ومرّ في الاعتبار السابق تنزههم في أمر مخصوص وهو الغارة .
قال أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم:
وكُنَّا قديماً لا نُقِرُّ ظلامةً ... إذا ما ثنوا صُعْرَ الخدودِ نقيمها
ونحمي حماها كلَّ يومِ كريهةٍ ... ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء وإنما ... بأكنافنا تندى وتنمى أرومها
وقال حذافة بن غانم يمدح بني هاشم (3):
هم ملئوا البطحاء مجداً وسؤدداً ... وهم تركوا رأي السفاهة والهجر
__________
(1) فتح الباري 6/534 .
(2) جمهرة اللغة 2/732 ، ولسان العرب 11/107 ، التاج 4/338 ، نظم الدرر 8/534 ، وفي مقابله أقرش بالرجل ، أخبره بعيوبه وحرّش .
(3) معجم ما استعجم للبكري 1/258 .

قال ابن حبيب في المنمّق : فضّل الله قريشاً على سائر مضر لأنهم كانوا لا يظلمون الجار ولا يغير بعضهم على بعض ، وفضّل الله بني هاشم لأنهم كانوا أوصل للأرحام ، وأكفَّهم عن الآثام (1) .
وقد كان يقال لقريش أهل الله ، وآل الله ، لما تميزوا به عن سائر العرب من المحاسن والمكارم والفضائل والخصائص التي هي أكثر من أن تحصى ، مع الأخذ في الاعتبار أنّ العرب عامةً كانوا من أكمل الناس وأكرمهم وأحسنهم وأفضلهم ، ولكن سَوْرة ذلك كله كان في قريش أشد.
وهذا الاعتبار عزاه ابن الملقن للقزاز في جامعه (2) .


الاعتبار الخامس عشر
يقال : أقرش بالرجل ، أي أخبره بعيوبه ، وأقرش به حرّش ، واقترش فلان بفلان أي سعى به ، وبغاه سُوءً ، ويقال: واللهِ ما اقترشتُ بك أي ما وشيتُ بك (3) قال الحارث ابن حلّزة:
أيُّها النَّاطِقُ المُقَرِّشِ عنَّا ... عند عمرو، وهل لذاك بقاء؟
عدَّاه بِعَن لأن فيه معنى الناقل عنَّا ، والمقرش هو المحرّش ، قال ابن حجر العسقلانيّ : وقيل ؛ أقرش بكذا إذا سعى فيه فوقع له (4) .
أما التحريش فإنا لم نعرفه لقريش ، قال ابن الملقن : وردّه الزجاجيّ في مختصر الزاهر وقال : إنه ليس بمعروف ، لأن المعروف في اللغة أن الترقيس بتقديم الراء على القاف هو التحريش ، وحاصله أن قريشاً كانوا لا يسكتون على باطل ولا عن منكر ، فكانوا يخبرون الإنسان بعيوبه لأجل أن يدعها ويتخلَّى عنها ، ويتحلى بالمحاسن والفضائل ، قال ابن الملقن : أو من أقرش الرجل إذا أخبره بعيوبه ، فكأنهم ينكرون المنكر ويعرفون المعروف (5) .
__________
(1) صفحة 21 .
(2) التوضيح صفحة398 .
(3) تاج العروس 4/338 ، لسان العرب 11/107 ، الزاهر للأنباري 2/121 ، ابن خالويه 197 ، المحكم 6/98 ، غريب الحديث للحربي 3/1031 .
(4) فتح الباري 6/534 .
(5) التوضيح 397ـ398 .

الاعتبار السادس عشر
أو لأن قصي بن كلاب كان يقال له القرشيّ ، وهو الذي سماهم بهذا الاسم ، حكاه مرتضى في التاج وقال : قاله المبرد ونقله السهيليّ في مبهم القرآن (1) .


الاعتبار السابع عشر
قال ابن سيدة : القرشية حنطة صلبة في الطحن ، خشنة الدقيق (2) ، قال ابن الملقن : فيحتمل أن تكون قريش منها لصلابتها وخشونتها وشدّتها (3) وقد كان من الشدة أنها تحمّست . وهذا الذي نميل إليه ؛ فلأجل قوَّتها وشِدَّتِها قيل لها : قُرَيْش . وهو عائد إلى القول الأول من الاعتبار السابع .



الاعتبار الثامن عشر
يُروى عن الإمامِ جعفر الصَّادق أنه قال : المؤمنُ عَلويٌّ لأنه عَلا في المعرفةِ ، والمؤمنُ هاشميٌّ لأنه هَشَمَ الضَّلالةَ ، والمؤمنُ قُرَشِيٌّ لأنه أقرَّ بالشيء المأخوذ عَنَّا .

فعلى هذا ربما تكون سُميت قريشاً لأجل أن الناس كانوا يُقِرُّون لبني النضر بكل تقدم وبكل سابقة وفضل ـ سوى الشعر ـ ، وكانوا يقلدونهم في كل شيء ، ويجعلونهم معياراً في معرفة النافع والضار ، والخير الشر ..

***

فهذه الاعتبارات في تسمية قريش باسمها الذي تعرف به ، وقد سماها بعضهم أقوالاً ، وهي عندي اعتبارات ، لأنها كلها يمكن اعتبارها سبباً صحيحاً صالحاً للتسمية ، لا أن يكون أحدها أولى بالاعتبار والأخذ من الآخر ، إلا ما تبين سقوطه وكذبه ، فقد كانت قريش شديدة صلبة قوية عزيزة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر لا تبغي ولا يبغى عليها لا تغزو وتغزى ، تمتهن التجارة من دون العرب ، ومن عدّها أقوالاً فهو مخطيء .
__________
(1) تاج العروس 4/337 .
(2) المحكم 6/99 .
(3) التوضيح 398 .




حَدُّ قريش
ونحن نقصد من هذا المبحث أن نبين صدق إطلاق كلمة قريش على أكثر من رجلٍ من رجالات العمود النبيل ، وأن كل طبقة من طبقات العمود الشريف لها من المقال ما يناسب حالها ، فمن قال : إنّ قريشَ هو قصي بن كلاب ، لا يعني أن الذين من نسل أبيه كلاب بن مرة ما هم من قريش ، فلا تستريب ما لو قلت لك إن كل الأقوال التي سأسردها أمامك لا تتعدى الصحة إلى الغلط ، ولا تجاوز الصدق إلى الكذب ، عدى ما سنرده في حينه من الشاذ ، وهاكها :


الاعتبار الأول : هو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وهذا اعتبارٌ معتبرٌ وصحيحٌ خلافاً لمن أنكره وأباه ، فهو قريش الأكبر ، فهو أوّل من اُبتدع له هذا اللقب ، وبهذا القول قال أكثر السلف الأثبات ، واختاره كثير من الخلف الموصومين بالتحقيق والموسومين بالتدقيق ، فقد نسبه ابنُ عبد البر لأكثر الناس (1) ، كما نسبه لابن الكلبيّ (2) ، قال ابن الملقن : هذا هو المذكور في جمهرته وجامعه (3) ، وهو كذلك في جمهرة شيخ أهل النسب (4) ، وبه قال ابن دُريْد في الاشتقاق (5) ، والحازميّ في عُجالة المبتديء (6) ، وابن قتيبة في المعارف (7) ، وأبو حيّان البستي في الثقات (8) ، والنسفيّ في تبصرة الأدلّة (9) ، والماورديّ في أعلام النبوة (10) ، وجعله السيد ابن عِنَبَة العلويّ أصحّ الأقوال (11) وكذلك فعل السمين الحلبيّ (12) ، والنوويّ الشافعيّ (13) ، قال الرافعيّ: هم ولد النضر بن كنانة ، قال الأستاذ أبو منصور رحمه الله : هذا قول أكثر النسابين ، وبه قال الشافعيّ رضي الله عنه وأصحابه رحمهم الله تعالى ، وهو أصحّ الأقوال (14) ، وقال القرطبيّ : هو أصحّ وأثبتْ (15) ، وقال أبو الفرج الأصفهانيّ في الأغاني: النضر عند أكثر النسابين أصل قريش وقال في موضع آخر عن بني عبد مناة بن كنانة:إنهم إخوة قريش قال : لأنّ قريشاً مختلف في الموضع الذي افترقت فيه مع أبيها ، فخصّت بهذا الاسم دونهم ، وأبعد من قال في ذلك مدىً من زعم أنّ النضر بن كنانة منتهى نسب قريش (16) ،
__________
(1) الإنباه 42 .
(2) الإنباه 43 .
(3) التصريح 394 .
(4) الجمهرة 25، 134، 188 .
(5) الإشتقاق 27 .
(6) العجالة 103 .
(7) المعارف 67 .
(8) الثقات 1/22 .
(9) تبصرة الأدلة 2/828 .
(10) أعلام النبوّة 173 .
(11) عمدة الطالب 135 .
(12) الدر المصون 6/572 .
(13) تحرير التنبيه 33 .
(14) العزيز 7/338 .
(15) تفسير القرطبيّ 20/138 .
(16) الأغاني 1/16، 4/361، 12/346 ..

قال ابن كثير في تفسيره : هو الذي نصَّ عليه هشام بن محمد بن السائب الكلبيّ وأبو عبيد معمر بن المثنّى ، وهو جادة مذهب الشافعيّ - رضي الله عنه - (1) ، حتى لقد حكى الفخر الرازيّ (2) ، والنيسابوريّ (3) الاتفاق على هذا ، وفي حكايتهما الاتفاق نظر لما ترى من اختلافهم ، واختاره من المتأخرين الزمخشريّ المعتزليّ في الكشاف (4) ، وابن عطيّة (5) ، وابن سعيد الأندلسيّ في نشوة الطرب (6) ، وابن عبد ربه في العقد الفريد (7) ، وابن خلدون المغربيّ في تاريخه (8) ، وابن قيّم الجوزية في زاد المعاد (9) ، والثعالبيّ في تفسيره (10) ، وابن قدامة الحنبليّ في التبيين (11) ، والبقاعيّ في نظْم الدرر (12) ، والبيضاويّ في الغاية القصوى (13) ، وابن فندق البيهقيّ (14) ، وابن حجر الهيتميّ في الصواعق (15) وابن الجوزيّ (16) ، وابن عابدين الحنفيّ (17) ، وهو ظاهر اختيار أبي حيّان في البحر المحيط (18) ، والمرداويّ من الحنابلة وإنْ حكى أنّ الأكثر يرونه فهر بن مالك (19) ، وهو في سيرة ابن هشام (20) ، وفتاوى ابن رشد (21) ، وفتح الباري (22)، واللباب لابن الأثير (23) ، وأنساب الأشراف للبلاذريّ (24) ،
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/200ـ203 .
(2) مفاتح الغيب 32/100 .
(3) تفسير النيسابوريّ 30/169 .
(4) الكشاف 4/235 .
(5) تفسير ابن عطية 5/525 .
(6) نشوة الطرب 1/322 .
(7) العقد 3/293 ، 266 .
(8) تاريخ ابن خلدون 2/387 .
(9) زاد المعاد 3/618 .
(10) الجواهر الحسان 4/443 .
(11) التبيين 55 .
(12) نظم الدرر 8/534 .
(13) الغاية 2/967 .
(14) اللباب 1/190 .
(15) الصواعق المحرقة 285 .
(16) زاد المسير 9/240 .
(17) الدر المختار 2/318 .
(18) البحر المحيط 7/513 .
(19) التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع 122 .
(20) السيرة 1/40 ، 25، 134 ، 188 .
(21) الفتاوى 1/409 .
(22) فتح الباريّ 6/534 .
(23) اللباب 30 .
(24) أنساب الأشراف 11/80 ..

ولسان العرب معزواً لابن سيدة (1) ، والحاصل أنه الذي عليه الفقهاء كما قال الآلوسي لظاهر حديث الأشعث بن قيس (2) ، وحديث الأشعث بن قيس الكنديّ أنه قال : يا رسول الله ، نحن بنو آكل المرار وأنتم بنو آكل المرار ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّم : ((لا ، نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفوا أمّنا ؛ ولا ندّعي لغير أبينا)) ، ويستشهدون له بشعر منه قول جرير :
فما الأمُّ التي ولدتْ قُريشاً ... بِمُقرفةِ النِّجارِ ولا عقيمِ
فما ولدٌ بأكرم من أبيكم ...

بواسطة : hashim
 5  0  10550
التعليقات ( 5 )

الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    10-01-34 11:57 صباحًا أبو محمد الشريف :
    جزاكم الله كل خير على هذاالموضوع الجد رائع
    ما شاء الله
  • #2
    10-01-34 08:03 مساءً الشريف أبو الحسن :
    بارك الله فيكم ونفع بعلمكم

    مقال شامل و وافي
  • #3
    10-01-34 09:38 مساءً الشريف محمد بن حسين الحارثي :
    أشكرك أخي السيد الحسين بن حيدر محبوب الهاشمي.. وأقول لك سلمت يمينك،وبارك الله في جهوك " دراسة رائعة"، وهي محط اهتمامي:
    وقد أثنى نبينا الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قريش فقال: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم""البخاري" قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إن قريشاً أهل صدق وأمانةٍ، من بغاهم العواثر أكبَّهُ الله لوجهه"( رواه الإمام أحمد في مسنده (4/340) عن وكيع به. والبخاري في الأدب المفرد(75) والحاكم في مستدركه 4/73 ).
    أخوك/ الشريف محمد بن حسين الحارثي
    باحث تاريخي
    طالب دكتوراه في التاريخ الإسلامي
  • #4
    12-01-34 03:40 صباحًا ابو وجود الشريف :
    شكراٌ لكم ، وجزى الله خير الجزاء السيد الحسين بن حيدر محبوب الهاشمي على هذا الجمع الرائع والوفير عن " قريش في العربية الاعتبارت في اشتقاق التَّسْمِيَةُ حَدُّ قريش "وجعله له في ميزان حسناته
  • #5
    19-01-34 12:04 مساءً الأموي :
    والنعم بقبيلة قريش ووالنعم بإخوتهم كنانة ووالنعم بإلياس بن مضر وسلسلة العمود النبوي الشريف

    مقالة ثرية جدا من السيد الحسين بن حيدر محبوب الهاشمي فشكرا
-->